في محبة امدرمان
محجوب كبلو
ان الزهر هديل جمد
ليس معجزة ان يطير هذا الانسان الجميل
المعجزة كونه لا يطير
كما تحيل كلمة الوردة تلقائيا الى الشعر، تستدعي كلمة شعر الطفولة. فهو كما ارى محاولة استرداد دائبة، لطزاجة الوجود وهو خارج للتو من الامكان الى التحقق ذهبيا، سحريا، ابديا، لا يظله اي تهديد، او كما سماه الشعراء الفردوس المفقود. اذن سأتحدث كتلميذ يتصف باللامبالاة في نظر جنايني الاكاديموس عن جذر الشعرية: الطفولة.
حسنا اذن. لقد صادقت طريقا فضيا نحيلا رشيقا كالف عثمانية على صفحة العشب من مرسى معدية شمبات - ابي روف الى محطة الشاحنة النباتية العملاقة، ولا زلت ابحث عن ذلك الطريق، او بالكاد اعثر عليه في سمادير الرسامين.
ثم رأيت، حقيقة لا مجازا، من تحت الغطاء الليلي طفلات من الحور وهن منغمسات في لعبة (التنطيط) على الحبل في فناء منامة الدار، ويثير دوران الحبل ورودا وثمارا تستقر فوق اغطيتنا الليلية. ولقد استسقيت المعصرات ما له طعم النافذة، واكلت ماله طعم النزهة.
كنت اسمع زئير الاسد قبل شروق الشمس يأتي من حديقة الحيوانات عابرا النيل الى الضفة الغربية (علمت فيما بعد أن هيرودوت اطلق عليها اسم الضفة الليبية كما سماها احيانا الضفة الوثنية وكنت الاحظ في الانتقال بين الضفتين تغير لون بشرتي عند كل ضفة). لم أكن اسمع ذلك الزئير فحسب، بل كنت اراه ايضا كسحابة تشبه ذلك الخط الذي تصنعه طائرة رش هوام البعوض الصباحية، فقد كانت حاسة السمع لدي تترجم ما تلتقطه الى مرئيات.
ببدو ان ما أطلق عليه غاستون باشلار قصر الطفولة المسحور، يتأتى من وحدة الحواس التي تتيح لنا رؤية الاصوات، وان نرتشف خصلة كالقهوة. لذا يمكن ان نمتلك قدرا وافرا من المعرفة، علما او فلسفة او دينا، دون ان نصاب بمتلازمة الشعرية، لانها ببساطة تتمثل في وحدة الحواس تجاه مقاربة الكائنات. مطلق الكائنات التي تقع داخل انطولوجيا الوجود، وما الشاعر الا منتجا للتعبير عن وحدة الحواس هذه وقد كافأته لغة الضاد بأن اطلقت عليه اسم الشاعر متوخية ارتقاء حساسيته.
ومن متحف الطفولة تطل كائنات السلم الاحيائي، وعقدها الفريد الحشرات بحضورها الملون. كنا نستقبلها بحواسنا المتضامنة التي تحيل الروائح الى الوان، والأصوات الى روائح والالوان الى حرائق او ينابيع. اخص بالذكر حشرة طفولتي المفضلة، خنفساء (الكدندار) الملونة، بقرة شجرة الحناء كما كنا نسميها. هذه السيدة بالغة الاناقة هي التي اثرت عاطفة طفولتي الى حدود الاشتهاء. الوانها، رفيفها وبالأخص عبقها، اذ لها رائحة مرتعها في نبات الحناء. وقد يكون هذا دافع عشقيتنا لاوراق تلك الشجرة. خنفساء الحناء هي كاهنة كيوبيد ومعلمة الاطفال لشؤون التربية العاطفية.
ومما يخفف حسية هذه الجميلة تقشف لون قديسة الجراد التي تسمى فرس النبي في بردها الاخضر الفقير، التي يشكل اسرها واطعامها لايام، وهي عمرها القصير بعد وقوعها في براثن الكيد الطفولي، وصلبها على شوكة، مما يمثل خطيئة باكرة يتعامى عنها الكبار، او لعلها احد وجوه التربية الرعوية.
ما كنا نحفل بالفراشات المتعالية على اشجارنا الشعبية من النيم والاكاشيات، وان كنا لا نتردد في رفعها على الخازوق للاستمتاع برفيفها الاخير.
ماذا عن الطير؟ هنالك طائر في ذلك الزمان يختزل كل ابهة الطيران. سيمورغ حقيقي. كنت اتمثل هيئته وانا في تصعيدات معراج نامة لسيدي فريد الدين العطار، ذلكم هو طاؤوس سيدتي الشريفة فاطمة بنت سيدي المحجوب وسيدتي نفيسة. واتساءل لم لا يتعهد البشر مشية هذا الكائن النبيل بتعليمها للاطفال في التربية المدرسية.
كان لهذا الطائر حومة موسمية قصيرة فوق ارجاء حي بيت المال، يحط فيها بعجائبية فوق شجرة الرمان وسط فناء دارنا ، قبل ان يحلق عائدا الى مقامه في قصر الميرغنية. هنالك ايضا القمري بلون (موية المطر) وذكره لربه الفصيح المسجوع.
كان فراغ حي الصور(السور في عامية ام درمان)، مكان حي الملازمين الحالي، هو سهب طرائدنا الفسيح، وقد كان قبل وقت قصير واديا للقنص المحترف للارانب والثعالب وشحيح من الغزلان.
يقول ذوونا انها بقايا اسراب الظباء التي تتحدر من كرري والمرخيات، مارة بزرائبهم، لترد النيل. يغلف كل ذلك من الوان اطلس الله القاري، غلاف متين من ترهات الكبار الذهبية التي تحيل وعي الاطفال الي طاقة قد لا تصلح لغير انتاج المجاز في مخيلة بعض ضحايا ملائكة الشعر.
عندما انظر لذلك الزمن من نقطة الآن اراه ملتحقا بعصور سحيقة. فقد كانت امدرمان بمثابة قرية فرعونية. النيل وبيوت الطين وفوانيس الكاز واشجار اللبخ (الجميز) والدوم، كل ذلك لا يترك لغير الفرعونية سبيلا. ربما كانت هذه الفرعونية مفتاح خيالي الشعري:
عند جسري
الذي يسميه الناس
جسر الملك الجائع
كانت الشمس تلقي الي بقطع السراب الشهية
ولَم يخل هذا الخيال ايضا من موسوية ما:
اكاثر قطعاني وذريتي على سهوب غفلتك
مهددا بانتباهك
فرعونية ما، وموسوية ما تشكل جذرا خفيا تحت افياء المحمدية الخاتمة الفارهة مطلع كل جمال وغروبه وابتعاثه
نعم سيدي انا الذي يرعى الياسمين الذي ينبت اثر خطاك.
الصورة: لوحة امدرمان للاستاذة كمالا اسحق