في رثاء الجزولي وكرار فقدنا (رزنامة) الحياة و(سهلها المُمتنع)
محمد عبد الماجد
لا يُوجع قلبي أو لا يحرقه، حتى أكاد أن أشتم رائحة شواء (الصّمام) أكثر من رحيل مُبدع، لهذا ظللت أعاني من (فوبيا) الأخبار التي تتحدّث عن رحيل المُبدع. ودائماً ما أتلقّى تلك الأخبار مثل الصّـواعق بصورة فجائية بدون مُقدِّمَات من المواقع الإلكترونية، أو مواقع التواصل الاجتماعي، ليكون شواء القلب بصورة عشوائية. ولا يحرقني من تلك الأخبار غير أنّ السُّودان من الصّعب أن يُعوّض مثل أولئك المُبدعين الذين نفقدهم تباعاً، مثل (مسارب الضوء) الذي يمضي ونحن نتمسّك بخيوطه الواهية الراحلة. وليس هناك أحرّ على القلب من أفول الشموع ورحيل نورها. عندما رحل عثمان حسين فاض النيل حزنا، وعندما رحل علي المك أصبحت أم درمان مثل الطفلة اليتيمة التي لا تنتظر شيئا وهي تقف على الباب حائرة.
فقدنا في بحر أسبوع كلاً من الصَّحفي والكاتب هاشم كرار، والشاعر والمحامي والأديب كمال الحزولي. ورغم أنّ الحرب بلّــدت مشاعرنا، إلّا أنّ فاجعة رحيلهما كانت أقوى علينا من الدانات والرصاص الذي يتساقط علينا في الصباح والمساء، ولا يعصمنا منه، غير أنّهم يطلقون مدافعهم وطائراتهم ويقصفون بها بعشوائية تجعلهم في كثير من الأحيان يخطئون المدنيين!
رحل كمال بفلسفته العميقة التي كان يمضي بها وهو يحكي لنا من صياغات مايكوفسكي (أخذت أجرجر معي أذيال قلبي) وهو يقول أيضاً بالزهد الذي عرف به الأدب الروسي (انتبهوا لأحذيتكم أيُّها السّادة، يا رجال الإطفاء، ينبغي التعامل مع القلوب المُحترقة بحنان)، نقول ونحن في هذا الموقف إنّ قلوبنا تحترق.
بصداقته التي جمعته بالشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى الذي كان يقول (قلبي الذي أكتب فوقه: فلتهدأ الضوضاء.. قلبي الذي يدخله الجرحى بأشرطتهم، ويلقى فوق نقالاته المصابون). كان كمال الجزولي وفيّاً لصديقه ودفعته في الدراسة والجامعة عبد الرحيم أبو ذكرى، بصورة جعلتنا نشعر أنّ أبو ذكرى لم يرحل بعد. فقد كان ابوذكرى في كتابات الجزولي وفي أنفاسه وحركاته.
يقول أبو ذكرى (تعب الكوكب، يجلس الآن مُضرجاً في القئ والغبار، يلفلف الضّماد قلبه ورسغه، أمامه تنتقل النجوم في المدار بالمسدّسات).
الراحل كمال الجزولي رحمة الله عليه جعل من الأدب الروسي فلسفة له، ليس في الكتابة فقط، وإنّما في الحياة بصورة عامة. والأدب الروسي يهتم بالبُعد الإنساني ويبنى دائماً على المواقف النبيلة. كمال الجزولي هذا الاسم الذي ظللت أتعامل معه كجسم فضائي ممنوع الاقتراب منه. وهو كوكب لا يمكن إدراكه، فهو من الذين وضعتهم ثقافتهم العالية في مكان لا تدركه الأبصار. اكتفينا بالتعلُّم منه عن بُعْــدٍ.
الشاعر المناضل هاشم صديق وصفه بالمناضل (الشرس)، وهو قد كان كذلك برتبة مقاتل. يقاتل بكلماته وقلمه ومواقفه وثقافته ، فيدمي خصومه دون أن تسيل نقطة دم واحدة. لكم أن تقدِّروا حجم هذه الشراسة ودرجتها، إذا كان وصفها يأتي من أكثر الشعراء (شراسةً)، وأهل الشراسة أدرى بشعابها.
كمال الجزولي كان نموذجاً أثبت لنا أنّ (الثقافة) هي أخطر الأسلحة التي يمكن أن تُحارب بها من أجل الديمقراطية والحرية والسَّــلام والوطَــن. يطيب لي الآن أن أصفه بالمُثقّف (القوي). كمال الجزولي أثبت لنا أنّ المبدع يمكن أن يكون (أنيقاً) يهتم بمظهره كما يهتم بالكلمات التي يكتــبهَا. ويمكن أن يكون المثقف قويا يتغلب بثقافته على الرصاصة والميليشيات والدبابات. كلمته كانت تهزم الف رصاصة.
مثلما كانت تتحدّث أم درمان عن أناقة الفنان إبراهيم عوض، تتحدّث أيضاً عن أناقة الشاعر كمال الجزولي، الذي كان واجهةً للزي القومي والفتوة المثقف الذي يمتلئ حيويةً ونشاطاً. كانت أم درمان لا تخلف له موعدا. ومع أنّ كمال الجزولي رحل وعمره ٧٦ عاماً، إلّا أنّه رحل عنا وهو (شابٌ) بكامل القوة والطموح والتدفق.
المثقف كان عندنا دائماً (بين بين)، وهي حِرفة تُعلِّمك كيف تمسك العصا من النصف. كمال الجزولي كان غير ذلك، واضحاً وقوياً وصريحاً. فهو إمّا أبيض ناصع البياض، وإمّا أسود داكن اللون، مواقفه مبنية على هذا الوضوح، لا تُوجد في مواقفه منطقة وسطى.
كان الجزولي (ملكاً) في مجاله، له سُلطةٌ ونُفوذٌ وقوةٌ، هو سُلطان زمانه في الثقافة والمعرفة. أوضح صفات كمال الجزولي هو كما وصفه هاشم صديق مناضل (شرس). كانت له هيبة، وفيه سُطوع وقوة، تجبر الجميع على احترامه وتقديره، حتى الذين كان يختلف معهم. كمال الجزولي لم يكن مثل طبيعة أهل اليسار الذين يغلقون كل المنافذ التي يمكن أن تؤدي إلى طريق لا ينتهي إلى اليسار. الجزولي مع تلك الشراسة التي تميز بها، خلق علاقات وصداقات مع كل التيارات السياسية، كانت (الثقافة) هي المعيار الأساسي عنده.
رغم أنّ العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب الأمة، علاقة فاترة أو هي علاقة تتميّز بخصومة دائمة وعداء قديم، إلا أنّ حزب الأمة نعى الشاعر والكاتب والأديب والمناضل والمحامي كمال الجزولي بكلمات غاية في الحُزن. وتحدّث حزب الأمة عن العلاقة التي كانت تجمع بين الإمام الصادق المهدي وكمال الجزولي، وقد أطّرها الراحل بكتابات جميلة عن الإمام الصادق المهدي رحمة الله عليهما.
كذلك، كانت هنالك علاقات قوية جمعت بين كمال الجزولي وعدد كبير من الإسلاميين، وقد كان كمال الجزولي يكتب في صحفهم، ويظهر في تلفزيوناتهم، ويشارك في ندواتهم بالشراسة التي عُرف بها من غير أن يُهادن أو يجامل أو يُنافق.
فضيلي جمّاع في رثاء كمال الجزولي تحدّث عن انطباعه الأول عن كمال الجزولي وهو انطباعٌ يُشاركه فيه كل الذين لا يعرفون كمال الجزولي. كتب فضيلي جماع: (إذْ لم يكن انطباعي مريحاً في البداية عن فتى أم درمان الأنيق، والذي بدا لي مُتعجرفاً وصارماً في بعض الندوات التي جمعتنا.. ولعل طبع البدوي عندي آنذاك هو الذي حال بيني وبين الاقتراب منه). تبدو لك منه من الوهلة الاولى الصرامة والعجرفة.
اللغة التي يكتب بها كمال الجزولي ويتحدّث، والأناقة التي عُرف بها، وانتمائه لأم درمان، صنع في مخيلة من لا يعرفونه، هذا الانطباع الذي يحمله الكثيرون عن كمال الجزولي.
فضيلي جماع كتب: (أشهد أني تعلّمت من كمال الجزولي الكثير. إنّ الكاتب والفنان الحق هو من وقف نصيراً للبُسطاء والمُعدمين وجعل من حياتهم حبراً لكتابته. وفي كثير من مجالسنا كان كمال الجزولي يحكي لي عن أشياء تطلع من قلبه كشاعر وفنان رقيق، بعيد كل البُعد عن براكين السياسة وصعودها وهبوطها).
وتحدّث جمّاع عن خاصية يتمتّع بها كمال الجزولي وهي أمرٌ يجب أن يُبرز، حيث يقول جمّاع:(كان للشاعر والأديب كمال الجزولي حاسّة نقدية متقدمة. يقرأ مسودة الكتاب فيختار له عنواناً أفضل بكثير مما خطر ببالك أنت صاحب الكتاب. حدث ذلك مع الروائي المبدع عبد العزيز بركة ساكن، الذي دفع إليه بروايته ذائعة الصيت (الجنقو)، قبل أن يدفع بها كاتبها للناشر. لم تكن الرواية بهذا العنوان. وبعد أن قرأ كمال المسودة، قال لبركة ساكن: عنوان هذه الرواية البديعة (الجنقو مسامير الأرض)! وقد كان. وحدث أن قرأ مسودة لمجموعة شعرية كنت أعدّها للنشر - كنت قد أعطيتها عنواناً، فإذا بكمال يقترح عنواناً للمجموعة لم أجد أفضل منه. أسماها (شارع في حي القُبة). والعنوان يحمل اسم القصيدة الأم في المجموعة والتي أحبها دون كل ما كتبت).
أم درمان بعد كمال الجزولي كيف لشوارعها ان تأنس ألفتها؟ سوف نعاني من الغربة في ام درمان بعد رحيل كمال الجزولي. قبل كمال الجزولي، كان قد رحل هاشم كرار الرجل الذي هزم المرض بالسخرية. لم يعرف السرطان مع كل صراعاته وأوجاعه وهو ينازل في بدنه أن يُجرِّده من ابتسامته، لقد كُنّا نحسد هاشم كرار على هذه القوة والصُّمود والإيمان واليقين.
هاشم ذلك الرجل الطيب الذي تشعر بطيبته حتي مع المرض الذي ينخر في عظمه وصحته وعافيته. كان هاشم كرار كلما هزل جسده وتساقط شعره يزداد قوةً وثباتاً، وكانت أسرته من حوله تشاركه الوجع في توافق وتشارك يجعلنا نسأل مَن المصاب فيهم؟
هاشم كرار صاحب (السّهل المُمتنع) في الكتابة والصّحافة، لم يتخل عن أسلوبه هذا حتى في أصعب لحظات الوجع. كان هاشم كرار يمارس (السّهل المُمتنع) مع السرطان. إنّنا نقول الآن بعد رحيل هاشم كرار، إنّه انتصر على المرض، وإنّ الدرس الذي كان يُقدِّمه لنا هاشم كرار يعيننا على مصاعب الحياة وعلى كدرها.
نسأل الله تعالى الرحمة والمغفرة لهاشم كرار وكمال الجزولي.
ولا حول ولا قوة إلّا بالله.
انتهى
أبو ابراهيم