الجبهة المدنية وحتمية الإصلاح السياسي
عبد الرحمن العاجب
مع دخول حرب أبريل المدمرة شهرها السابع، وارتفاع وتيرة العنف والمعارك العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع في عدد من ولايات السودان، وفي الوقت الذي يقول فيه المتحاربون (لاصوت يعلو فوق صوت المعركة) شهدت العاصمة الاثيوبية أديس أبابا في نهاية شهر اكتوبر الماضي إجتماع للجبهة المدينة لإيقاف الحرب، وأفلح الاجتماع في اختيار اسم (تقدم) وتعني تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، وتم إختيار الدكتور عبدالله حمدوك رئيسا للهيئة القيادية للتنسيقية.
وللمصلحة العامة يجب مشاركة كافة القوى الوطنية الحريصة على وقف الحرب والتحول الديمقراطي المدني في المؤتمر العام للجبهة المدنية لوقف الحرب. إذ لا يمكن قصر قضايا بناء سودان ما بعد الحرب على المشاركين في اجتماعات أديس أبابا فقط، بل يتطلب الأمر مشاركة واسعة من المواطنين المتضررين من الحرب والمجتمع المدني والنساء والأكاديميين والأحزاب السياسية وحركات الكفاح المسلح والنقابات ولجان المقاومة والفاعلين السياسيين.
وبالنسبة للبعض فإن أسس ومبادئ إنهاء الحرب وتأسيس الدولة السودانية يجب أن يشارك فيها الجميع. وكي تكون هذه العملية السياسية سودانية الهوية، يتطلب الأمر من الجميع العمل يدًا بيد للتوصل إلى وقف الحرب وإنجاز تسوية نهائية تُنهي هذا الفصل المظلم، وتستعيد المسار نحو الحرية والسلام والعدالة للجميع.
وثمة من يرى أن النخب السياسية والأحزاب فشلت في تحقيق طموحات المواطن المشروعة بسبب عجز الحكومات المتعاقبة، حتى بات البعض يطلقون عليه (وطن الرهانات الخاسرة) بعد أن ظلت نخبه وأحزابه الحاكمة والمعارضة لعقود مضت تعيد إنتاج الفشل بشكل مستمر، وتدفع برهانات خاسرة لحلول أزماته المزمنة، فضلا عن فشلها في تحقيق الاستقرار السياسي الذي أرجعه البعض إلى فشل الصفوة المركزية، والنخب التي دمغها البعض بأنها أوردت الوطن ومواطنيه موارد الهلاك.
وبالنسبة للبعض فإن عملية التغيير والانتقال نحو الديمقراطية في السودان هي عملية تدريجية، ولن تحقق كل أهدافها بين ليلةٍ وضحاها. وربما تختلف القوى التي تريد إقامة الديمقراطية في السودان حول أفضل الطرق لتحقيق هذه الغاية، لكن ما يجمعها يفوق بكثير ما يفرقّها، فيما لا تملك أي جهة في هذه المرحلة الحق في احتكار المساعي المؤيدة لوقف الحرب واستعادة الديمقراطية والتغيير، فالجميع لديهم الحق في المشاركة والمساهمة في تشكيل مستقبل السودان.
وفيما يبدو إن الأحزاب السياسية السودانية جميعها بلا استثناء ليست بعيدة عن أزمات الوطن، بل كانت سببا فيها حينما كانت في السلطة أو المعارضة. وما ذهبنا إليه تؤكده الحقائق التاريخية منذ الاستقلال وحتى الآن. وبالنظر لتلك الأحزاب نجدها تعاني من أزمة تنظيم داخلية بسبب دعوات الإصلاح الداخلية التي أدت في نهاية المطاف إلى انشقاقات داخلها بسبب دعوات الإصلاح.
وبالنظر لفكرة الإصلاح السياسي، فإننا نجدها فكرة قديمة وتناولها قدماء المفكرين اليونان أمثال (إفلاطون وأرسطو) في القرن الخامس قبل الميلاد، وتحدثوا وقتها عن الأفكار الإصلاحية وأصبحت الفكرة موضوعا رئيسا في النظريات السياسية للفلاسفة والمفكرين منذ (ماكيافيلي) في عصر النهضة ومجيء حركة الإصلاح الديني في أوروبا وبروز المذهب البروتستاني بقيادة (مارتن لوثر).
ومن ضمن حركة الإصلاح السياسي في الغرب الثورتين الأمريكية والفرنسية، حيث قامت الأخيرة ضد الاستبداد السياسي، ومن أجل تأمين الحقوق السياسية والمدنية للمواطنين عبر مبادئ (الحرية والمساواة والإخاء) الأمر الذي ترتب عليه ظهور الديمقراطيات الغربية بنظمها السياسية المختلفة من برلمانية ورئاسية ومختلطة.
غير أن دعوات الإصلاح السياسي تجاوزت الحيز المكاني للغرب وأوروبا، وعمت العالم العربي، وتحركت الشعوب وكسرت حاجز الخوف وأتت بما عرف بـ (ثورات الربيع العربي) التي أطاحت بأنظمة وحكام (تونس ومصر وليبيا واليمن). وركزت ثورات الحرية في تلك البلدان على مطالب تحقيق الإصلاح في المناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويلاحظ أن التغيير الذي حدث في تلك البلدان كان بسبب تغلب وانتصار قوى التغيير وأدواته على قوى الممانعة التي تريد المحافظة على الوضع القائم وأدواته. وثورة ديسمبر المجيدة التي أنجزها الشعب السوداني ليست بمعزل عن تلك الثورات التي شهدها العالم.
ويعرف قاموس (وبستر) مصطلح الإصلاح السياسي بأنه (تحسين النظام السياسي من أجل إزالة الفساد والاستبداد) ويعتبر ركنا راسخا للحكم الصالح، ومن مظاهره سيادة القانون والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار والعدل وفاعلية الإنجاز وتجديد الحياة السياسية وتصحيح مساراتها وصيغها الدستورية والقانونية. والإصلاح نقيض الفساد والمقصود به الانتقال أو التغيير من حال إلى أحسن. وعرفه قاموس (إكسفورد) بأنه (تغيير أو تبديل نحو الأفضل في حالة الأشياء ذات النقائض، وخاصة في المؤسسات والممارسات السياسية الفاسدة أو الجائرة لإزالة بعض التعسف أو الخطأ).
وثمة من يرى أن هناك أهمية للإصلاح في حياة الأفراد والمجتمعات والأحزاب السياسية والدول، باعتباره ضرورة لتقدم الحياة الإنسانية ومرتبط بالجوانب الحياتية الأخلاقية ونقيضه الفساد. فضلا عن ذلك هناك حتمية للإصلاح الشامل في الحياة الإنسانية، وفي معنى آخر يعني الإصلاح تغيير قواعد عمل النظام المجتمعي ومعالجة القصور والاختلالات التي تعيق التنمية والنهوض بالمجتمع من جميع مناحيه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويمس كافة جوانب الحياة المادية والفكرية والروحية والأخلاقية للمجتمع.
وبحسب بعض المتابعين فأن التغيير الحقيقي يعني الانتقال من وضع إلى وضع مغاير كلياً يتضمن تغييرات عميقة شاملة ومستديمة. وأنه يكون نحو الأفضل ويهدف إلى أن تسود الحرية مكان الاستبداد، والعدالة مكان الظلم، والأمن مكان الخوف، والتعليم مكان الأمية، والاستقرار مكان الفوضى.
وللخروج من النفق المظلم، طالب بعض المراقبين بتأسيس حركة إصلاح سياسي تقودها الجبهة المدنية تهدف إلى تغيير مفاهيم السودانيين وأحزابهم السياسية في مواجهة الحقائق. وأن تكون تلك الحركة مبنية على سرد تاريخ حقيقي ونقد ذاتي يهدف إلى بناء وطن جديد حر ديمقراطي خال من الرهانات الخاسرة التي ظلت تقدمها النخب والأحزاب التي أدمنت الفشل.
فيما يرى آخرون أن بناء السودان الذي ينشده الجميع لن يأتي بردود الفعل التكتيكية وإنما باتخاذ قرارات مبنية على مفاهيم جديدة، تقوم على قاعدة من التوافق الوطني الذي لا يعزل أحدا إلا المؤتمر الوطني، والأخذ في الاعتبار أن التحولات التاريخية المستدامة تحدثها الشعوب وليس الأقليات العرقية أو السياسية المهيمنة.