19/11/2023

كمال الجزولى من الصحافة الى المنصة

صديق محيسى

تعرفت على الراحل كمال الجزولى فى ستينات القرن الماضى بواسطة الصحفى الراحل ميرغنى حسن على. المحرر فى السودان الجديد يومذاك. ربط صداقتنا الاهتمام بالأدب الثورى، الشعرالحديث والقصة القصيرة والرواية والمسرح. فكنا الأثنان نجرب كتابة الشعر ونحبو فى قوافيه، فسبح كمال متوغلاً فى بحوره بينما أخذتى أنا الأمواج إلى الصحافة تأكل شيئاً فشيئا من الموهبة حتى وصلت إلى بر كتابة النقد أحيانا وحتى الآن.

كنا ملتصقان حباً ومودة، مثل توأمين لا نفترق إلا ساعة النوم. أذهب معه إلى منزلهم فى حى بانت بيوت السلاح الطبى، ويذهب معى فى الأعياد إلى مدنى مسقط رأسى. نتبادل الكتب ومجلة الآداب لسهيل ادريس، والثقافة الوطنية لكريم وحسين مروة والطريق لمهدى العامل. وفى مصر مجلة الطليعة للطفى الخولى والكاتب لأحمد حمروش والأهرام الاسبوعى نجد فيه آخر قصص نجيب محفوظ ويوسف ادريس وكتابات لويس عوض وحسين مؤنس وغالى شكرى وصلاح عيسى.

وتعزز مزاجنا الثقافى لنعانق جيلى عبد الرحمن وتاج السر الحسن فى "قصائد من السودان"، ومحى الدين فارس "فى الطين والأظافر" والفيتورى فى "أغانى إفريقيا" ومحى الدين محمد هذا النوبى المفكر الكبير"ثورة على الفكر العربى المعاصر" الذى سأل عنه كمال مرارا يريده حيا او ميتا ولكنه غادر قبل أن يجد له جوابا. تلك كانت نقطة تحول فى منظورنا الأثنين لقضية الفن، أهو خواطر ذاتية وتزجية للفراغ أم لخدمة الأنسان؟

من هذا الباب، باب الثقافة، دخل كمال الجزولى إلى عالم الصحافة، فالتقينا لأول مرة محررين عام 1965 فى وكالة أنباء إفريقيا الجديدة، التى أصدرها الصحفى الراحل عمر كرار. معنا فاروق حامد وسبقنا إليها إدريس حسن ومحمد أحمد عجيب،, وهما صحفيان مشهوران فى جلب ألأخبار الطازجة.

استقال كمال الجزولى مغاضباً، وغادرنا سويا عندما نوهت الميدان ما معناه أن هناك جسم صحفى جديد وراءه سفارة أجنبية.

لست أدرى بعد ذلك ما إذا كان قد انضم إلى أسرة الميدان أم لا، ولكن ما لمسته أن عبد الخالق محجوب، سكرتيرالحزب الشيوعى، كان يرى فى كمال مشروع شاعرمجيد ومثقف عضوى لنباهته الفكرية الثورية. وطالما ذهبنا إليه ليستقبلنا فى مكتبه، وهو الذى رشحه لمواصلة دراستة الجامعية فى أوكرانيا.

بعد أن انتقلت من صحيفة الأيام إالى صحيفة السودان الجديد عام1966، التى كان يرأس تحريرها الراحل فضل بشير ويدير إدارتها الراحل يحى عوض، جاءنا كمال مرة أخرى ليحرر صفحة "مشاتل الفيروز" الأسبوعية التى كان يشرف عليها الصحفى كمال دبوره والذى سيغادر السودان إلى دبى ليلتحق بوظيفة جديدة فى مجلة البلدية. وهكذا تم اسناد الصفحة إلى كمال والذى حوّلها من صفحة تهتم بالوجدانيات الصرفة للطلاب فى جامعة القاهرة إلى منبر سياسى وأدبى جاد يعكس الصراعات داخل الجامعة وتنقل المناظرات الساخنة، بين منير صالح عبد القادر ومحمد محمد على ومحى الدين فارس وحسب الله الحاج يوسف، حول الشعر الحديث والشعر التقليدى والندوات التى تقيمها الأحزاب السياسة.

باشر كمال تجديد الصفحة، فجذب إليها الشعراء عبد العزيز جمال وإدريس عوض الكريم وسيد احمد الحاردلو وعوض مالك ومصطفي سند وصلاح أحمد إبراهيم. ونشر فيها أولى قصائده الشعرية التى تبشر بقاموس جديد من المفردات والصور.
شاركنا كمال عندما زحزحنا "السودان الجديد" من المحافظة اليمينية إلى خانة اليسارالجديدة. فهاجمنا محاكمة الشهيد محمود محمد طه وساندنا الدكتور عمر محمد عثمان فى الصراع على إدارة جامعة الخرطوم ضد البروفسورعبد الله الطيب المؤيد من جبهة الميثاق وحزب الأمة.

أصبح كمال ضمن مجموعتنا، يحيى العوض، محمود محمد مدنى، عمر جعفر السّورى. يرافقنا بعد نهاية العمل فى الصحيفة فى قضاء أمسيات الخرطوم، يوم كان للعاصمة أمسيات تفيض فيها المطاعم ببرجوازية المدن وأفندية الطبقة الوسطى. فهناك فوق سطوح فندق "الليدو" نلتقى مجموعة الميدان، الرفاق عمر مصطفى المكى وعبد الرحمن احمد وميرغنى حسن على ومكى عبد القادر وعبد الله عبيد، نحسب أنه قد تأثر كثيرا بهذه الوجوه القيادية فى الحزب الشيوعى فى هذه اللقاءات. لكن مع ذلك، لا ادرى ما إذا كان قد جاءنا جاهزا يحمل بذرة الحزب من "فراكشن" حى بانت حيث حسن شمت ومحجوب عبد الرحمن "الزعيم" وميرغنى حسن على والمحامى احمد عبدالله المشاوى، أم أن ذلك حدث فى اللقاءات المسائية التى يلتئم فيها شملنا من وقت لآخر ونلتقى فيها أسرة تحرير الميدان.

يروى الراحل "ظللت، خلال العامين 1967م ـ 1968، كنت أتنقَّل، كالنَّحلة الشَّغوف بين بعض المؤسَّسات الصَّحفيَّة، حتى طاب لي المقام، قبيل سفري إلى كييف للدِّراسة بجريدة «الضِّياء»، بديلة «الميدان» بعد حظرها في عقابيل حلِّ الحزب الشِّيوعي، وكان يرأس تحريرها المرحوم عمر مصطفى المكي، وسكرتير تحريرها المرحوم ميرغني حسن علي ويشرف عليها سياسيَّاً المرحوم حسن الطاهر زروق. تلك هي الفترة التي بدأت فيها صداقة العمر بيني وبين صدِّيق محيسي ومحمود محمد مدني فضلاً عن صداقات كثر في الوسط الصحفى". ويحكى كمال عن تجاربه فى عالم الصحافة (الواقعة الوحيدة التي كنا صِدِّيق محيسي وشخصي ضمن شهودها المباشرين، بالمصادفة البحتة، حدثت يوم دعانا، ذات خميس من أوائل عام 1968م، زميل صحفيٌّ لتناول العشاء بمنزله بأم درمان، بمناسبة «سماية» مولوده الجَّديد وفي طريقنا لتلبية الدَّعوة لم نكن نمنِّي النَّفس بأكثر من سهرة متواضعة، لعلمنا بإمكانيَّات مضيفنا الماليَّة! غير أننا، ما أن اقتربنا من «بيت السِّماية»، حتَّى لاحظنا أرتالاً من السَّيَّارات الفارهة حاملة لوحات المرور الدِّبلوماسيَّة! ثمَّ كانت المفاجأة الأكبر بالدَّاخل، حيث الزِّينات المبهظة، والثُّريَّات الضِّخام، قد أحالت ليل بيت أخينا نهاراً، وأعداد مهولة من المدعوِّين، أكثرهم صحفيُّون، يتحلقون حول طاولات نضِّدت بأناقة، وفرشت بالأغطية الفخمة، ورُصَّت عليها صِحاف الضِّيافة، وقواريرها، وآنيتها، بسخاء باذخ! جلسنا، على استحياء، إلى أقرب طاولة، وما لبث مضيفنا أن خفَّ إلينا، هاشَّاً باشَّاً، يأمر لنا بالمزيد من الضِّيافة، ونحن بين الدَّهشة والحيرة نكاد لا نصدِّق!

لحظات، وبدأت ترتفع، من مكان ما، أصوات آلات موسيقيَّة يتمُّ ضبطها، ومكبِّرات صوتٍ يجري تجريبها. التفتنا، لاإرادياً، فأبصرنا فرقة موسيقيَّة على منصَّة قبالة الفيراندا المطلة على الحوش حيث نجلس، ثلة من فتيان إثيوبيِّين بأقمصتهم، وآلاتهم التَّقليديَّة المميَّزة! لكن، قبل أن نعِي الحاصل تماماً، فرقع صوت امرأة مسِنَّة من داخل الفيراندا:
ـ "الرسول يا بنات امِّي جيبوا المرارة لي .. تِرِّيكَن"!

سرت رعدة بين الطاولات، وقفَّ شعر رؤوس كثيرة في المكان! التفتنا، لاإرادياً أيضاً، إلى مصدر الصَّوت، فإذا بـ «سفير جهنم» ذاته، بلحمه وشحمه، وقد أحاط به خلقٌ كثيرون، رجال ونساء وأطفال من مختلف الأعمار، كأنه كبير الأسرة، يسامر هذا، ويداعب ذاك، وأمامه طاولة خاصَّة مُدَّت، وصحاف منتقاة رُصَّت، وبدا، جليَّاً، أنه ضيف الشَّرف الرَّفيع والمحظى لكلِّ ذلك البذخ !

ما حدث، بعد ذلك، كان «كوميديا سوداء»، إذ ألفيتنا، صِدِّيق وشخصِي، نتدافع، ضمن آخرين، دون سابق اتِّفاق، عند باب الخروج! وفي الشَّارع استغرقتنا موجة من الضحك الهستيريِّ عندما رأينا بعض الأصدقاء ما كادوا يتخارجون حتى أطلقوا سيقانهم للرِّيح! ولم نكفَّ عن التَّندُّر بذلك طوال يوم الجُّمعة! لكننا فوجئنا، صباح السَّبت، ونحن نستقلُّ التاكسي إلى الخرطوم، بالخط الرَّئيس لجريدة «الضِّياء» يَدْوِي كما القنبلة: «الملحق العسكري الأثيوبي يقيم حفل علاقات عامَّة لتجنيد عملاء جُدُد من الوسط الصَّحفي» .. أو نحو ذلك! وهمس لي صِدِّيق، الذي ساءته كثيراً تلك الصِّياغة، بأنها تمسُّ صحفيين شرفاء كلُّ ذنبهم أنهم لبوا، ببراءة، دعوة عاديَّة من زميل لهم، على العشاء، دون أن يعلموا بأنها كانت مصيدة! وفور وصولي إلى الصَّحيفة نقلت ذلك إلى المرحوم حسن الطاهر زروق، ورويت له تفاصيل ما حدث. وكان مِمَّا قال «أبو علي» بلهجته المصريَّة المميَّزة:

ـ "أيوه يا كمال يابني كلام صِدِّيق صح، وأكيد راح نطيِّب الخواطر، بس كمان أخوانا دول لازم يتفهَّموا إنِّ مَكانش ممكن نِهدر القيمة التَّحذيريَّة الأساسيَّة في الصِّياغة"!وحول صحن الفول الذي دعاني إليه راح يقهقه لمَّا رويت له حكاية الفزع الذي انتاب الكثيرين حين علموا بعلاقة تِرِّيكَن بالحفل، وأنه موجود فيه! وفي اليوم التالي نشرت الصَّحيفة تنويهاً مهذباً في ذات المعنى الذي وعدني به، فطابت خواطر كثر .

اللهم أظله تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ولا باقي إلا وجهك. اللهم بيض وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، اللهم يمن كتابه. اللهم ثبت قدمه يوم تزل فيها الأقدام. اللهم اكتبه عندك من الصالحين والصديقين والشهداء والأخيار والأبرار.

معرض الصور