19/11/2023

لجوء تربيع .. مآسي غير مرئية

عثمان فضل الله
كثيرة هي المآسي غير المرئية في هذه الحرب، يغطيها غبار المعركة ويكتم صوتها أزيز المدافع. نعبر عليها عندما تصطدم بوجهنا عبر قصة محكية من أحد الاصدقاء أو مكتوبة في بوست ما على صفحة في مكان منزوي في فضاء مارك المسمى فيسبوك، وذاك المملوك لإيلون ماسك المكنى "أكس".

فالحرب طحنت الناس، ولازال حجر رحاها يدور على ملايين البشر. ولعل أول من انتخبت للطحن هم عمال اليومية وأصحاب الطبالي وعمال ما يسمى بالمهن الهامشية، الذين كانت تغص بهم جنبات الخرطوم في السوق العربي وغيره من الأسواق إلى جانب الأطفال المشردين الذين كانوا يتخذون من مصارف مياه الخريف بيوتا.

ومن ضمن المآسي المنظورة قليلا لكبرها، هي عدم صرف العاملين بالدولة والكثير من العاملين في القطاع الخاص لمرتباتهم.

غير أن أكبر المآسي في هذه الحرب هي مآساة النساء في بلادي، فهن جزء من كل تلك الفئات آنفة الذكر. فهن عاملات لم يصرفن رواتبهن، وهن بائعات طعام توقف رزقهن، وهن نازحات فقدن خدورهن وخصوصيتهن. وفوق كل هذا وذاك هن أمهات يقتل أولادهن او ازواجهن من هذا الطرف أو ذاك، إن لم يكن الضحايا.

كاذب من يقول انه يعلم عدد النساء اللائي تعرضن للاعتداء الجنسي والعنف الجسدي خلال هذه الحرب العبثية. بعض المحاولات من قبل وحدة مكافحة العنف ضد النساء الحكومية والتي كشفت في آخر إحصاء منشور في شهر أكتوبر الماضي أن حالات العنف الجنسي تجاه النساء بلغت 136 حالة موثّقة، بينهن 14 طفلة، وسُجلت 68 حالة في الخرطوم، و47 في نيالا، و21 في الجنينة، في حين وصلت حالات "الاسترقاق" (الاستغلال) الجنسي إلى 29 حالة.

ولايوجد إحصاء دقيق حول المختفيات قسريا، إذ تقدر بعض المنظمات بشكل غير رسمي أن الخرطوم وحدها شهدت ما لا يقل عن 80 حالة اختفاء لفتاة وإمرأة بينهن قاصرات، بعضهن عاد والاخريات لا يعرف مصيرهن، وان الأسر ترفض التجاوب مع المنظمات حول الادلاء بأي معلومات في هذا الشأن خوفا من "الفضيحة".

وتروى المجالس على استحياء قصص يشيب لها الرضيع في هذا الجانب، غير أن تداولها علنا يعد من المحرمات مثل انتشار تجارة الجنس، بشكل لافت حلال فترة هذه الحرب بشكل لم تشهده الخرطوم على مر تاريخها بينما، تشكو العديد من النساء الذين يطلبن المساعدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي مضايقات من رواد تلك المواقع تتمثل في الإغراء بايفاء حاجتهن مقابل تقديم خدمات جنسية.

كل تلك المآسي على بشاعتها وقبحها غير أنها تتضاءل أمام مآساة اللاجئين اليمنيين والسوريين الذين اتخذوا من السودان ملجأ، هربا من الحروب في بلدانهم فلاحقتهم الحرب في السودان.

صدق من قال "ان المأساة اذا تكررت تحولت الي ملهاة". فرغم مرور 7 أشهر على الحرب لا تزال هذه الفئة من الناس تنام في الشوارع والمدارس والحدائق العامة"، في انتظار فرج الإجلاء الذي لا يتأتي. فقدوا ما جنوه من كدهم خلال سنوات لجوئهم إلى السودان، وجدوا أنفسهم عالقين لايدرون ماذا يفعلون وإلى أين يذهبون.

"لا مال ولا مأوى ولا وطن يعودون إليه"، هكذا يصف محي الدين مرعي، العالق السوري في بورتسودان وصاحب معرض تزيين السيارات سابقاً بحسب ما نقل عنه في وقت سابق موقع رصيف22، أوضاع السوريين في المنطقة، مبيناً أنه اضطر إلى ترك سيارتين و3 محالّ في الخرطوم لإنقاذ صغاره من محرقة الحرب، كمعظم النازحين الذين باعوا ممتلكاتهم سعياً للإجلاء.

كانت الصدمة الأكبر هي "كذبة" الإجلاء، إذ لم تحمل السفن السعودية التي أعلن عنها سوى 200 سوري، ثم أعلنت استبعاد السوريين واليمنيين. وأرسلت دمشق طائرتين حملتا أصحاب الواسطة ومالكي المصانع الكبار مجاناً، ثم طُرحت تذاكر طيران بسعر 500 إلى 700 دولار للكرسي الواحد والكبير كالصغير، ثم اشترتها وكالات السفر لتزيدها إلى 600 و700 دولار ووصل بعضها إلى 1،300 دولار.

باعت عائلات في سوريا سياراتها ومنازلها لتعيد ذويها، فغادر القادر على تحمل تلك الكلفة الباهظة، وأصبح الباقون رهائن لأرصفة بورتسودان ومحاصرين بين الحرب في الخرطوم والتذكرة الباهظة التي تعيدهم إلى أوطانهم الممزقة أصلا.

يقول محدثي وهو قد وصل إلى إحدى دول الجوار، عن طريق التهريب، إنه ل ايدري ماذا يفعل في مستقر لجوئه الجديد. "وصلت إلى هنا بلا مال ولا وضع قانوني، أعتمد الان على قليل من المعارف. بعضهم تكفل بأيواء أسرتي مؤقتا، وآخرون تكفلوا بالمصروفات إلى أن أدبر أمري". ويواصل "لكن اعتبر نفسي محظوظا إذ إنني أملك بعض من المال الذي وفر لي خوض هذه المخاطرة، لكن هناك في بورتسودان وحلفا من لا يملكون ثمن وجبة واحدة. يعيشون على إعانات السودانيين الذين هم في حاجة لمن يعينهم".

معرض الصور