21/11/2023

انتظار المجاعة في السودان

يوسف حمد
يدخل المزارعون في ولاية الجزيرة إلى موسم حصاد العروة الصيفية، لكن بحماس أقل مما كان عليه في المواسم الزراعية السابقة، تبعا لتداعيات الحرب الدائرة في البلاد منذ منتصف أبريل الماضي، واعتبارات أخرى يعانيها المشروع الزراعي العملاق لسنوات.

وساهمت قلة الأمطار وقلة المدخلات الزارعية (أسمدة وتقاوي) في تدني الإنتاجية المتوقعة من الذرة والفول السوداني، المحصولان الأبرز في العروة الصيفية، ما يعني التأثير المباشر على العروة الشتوية المرتقبة، وهي عروة يعول عليها المزارعون في إنتاج محاصيل سوقية.

وطبقا لتوصيات هيئة البحوث الزراعية، تنتهي في العاشر من ديسمبر المقبل المواعيد المقررة لزراعة محاصيل العروة الشتوية بالمشروع، وسيواجهها المزاعون بمدخرات أقل ورصيد متراجع بسبب الفشل البائن للعروة الصيفية. إلى جانب صعوبات فنية متعلقة بري المشروع.

وفي الواقع وعمليا، تبدأ محاصيل العروة الشتوية بحلول منتصف شهر نوفمبر، وتحذر الهيئة سنويا من مغبة زراعة أي محصول بعد هذه المدة. وفعليا بدأ المزارعون في استلام تقاوي القمح من إدارة المشروع استعدادا للموسم، لكن بضمانات متعسفة وهي كتابة شيكات بنكية لإدارة المشروع تضمن سداد المديونية.

ويقول المزاعون إن الموسم الشتوي بدأ ناقصا من حيث التقاوي حيث تسلم المزارعون 50% فقط من تقاوي القمح، ولم يتسلموا الأسمدة مثل، (اليويريا وسوبر فوسفات)، ما يعني ألا ضمانات لأي نجاح متوقع للموسم.

وطبقا لـ (كمال الناير- اسم مستعار) المفتش بالمشروع فإن الموسم الشتوي المرتقب سيبدأ لكن "هناك أكثر من 90% من أراضي المشروع بلا تحضير، ما يشير إلى أنها ستكون بلا زراعة". ويقول المزارعون إن البنك الزراعي، المختص بتمويل العمليات الزراعية، قلص تمويله إلى حدود دنيا وأصبح لا يقبل استلام محصول المزارعين.

ويشير الناير إلى عجز المزارعين عن تمويل موسمهم الزراعي الشتوي المهم وهم مواجهون بدفع ضريبة هي الأعلى، تصل إلى 300 ألف جنيه (500 دولار)، وهي عبارة عن الخدمات التي تقدمها الحكومة (المياه والمنصرفات الإدارية).

وفي الواقع، يعد الموسم الشتوي الذي تزرع فيه المحاصيل التجارية السوقية من أهم المواسم الزراعية بالنسبة للمزارعين؛ ففي ثمانينيات القرن الماضي، دخل القمح إلى التركيبة المحصولية، وحل تدريجيا محل القطن بوصفه المحصول النقدي، ما قاد إلى تحول في طبيعة المشروع من مشروع إعاشي، إلى رأسمالي تجاري.

وببداية حقبة التسعينيات من القرن الماضي، خضع المشروع للخصخصة، وتخلت الدولة عن التمويل كليا عقب السياسات المستمدة من قانون مشروع الجزيرة 2005.

وفي العام الماضي، قبل الحرب في الخرطوم، رفض المزارعون وصغار المنتجين زراعة محصول القمح بالمشروع نتيجة لسياسات وزير المالية والتخطيط الاقتصادي، جبريل إبراهيم، بعد أن أحجم في العام 2021 عن شراء محصول القمح من المزارعيِن، بجانب عدم وضع السعر التأشيري للقمح، ما اعتبر وقتها من أكبر التحديات التي واجهت الموسم الشتوي.

فعليا، إنهار مشروع الجزيرة، الذي يعد من أكبر المشاريع الزراعية المروية في أفريقيا ويقع في مساحة تصل إلى نحو 2.2 مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة، انهيارا بائنا يتحدث عنه المزارعون في حياتهم اليومية. وبانهيار المشروع العملاق، انهارت بنية اجتماعية واقتصادية فعالة كان المشروع يمثل، على الدوام، عمودها الثابت.

ضرب الانهيار في صميم حيوات القرى والبلدات التي يحتويها المشروع أكثر مما ضرب الحواضر، مثل ودمدني والمناقل والحصاحيصا، وغيرها من المدن التي وفرت طريقة مقبولة لنمط من أنماط الاقتصاد والحياة العصرية الواعدة.

ففي غضون عقدين فقط كان الآلاف من مزارعي الكفاف والرعاة الذين يحتضنهم المشروع في حالة مربكة بسبب السياسات الزراعية المطبقة، واضطرتهم هذه السياسات لترك القرى وهجر الزراعة هربا للبحث عن الحياة في العاصمة الخرطوم، أو قلة منهم اختاروا الهجرة للعمل كأجراء ورعاة في دول الخليج الغنية.

الآن وبسبب النزاع السلطوي الدائر في الخرطوم، عاد الهاربون من المدينة إلى قراهم القديمة، أو احتموا مع أسرهم بمدن الجزيرة البعيدة عن مرمى النزاع المسلح، لكنهم عادوا ولم يجدوا شيئا يعينهم على مواصلة الحياة في أدنى حدودها.

لقد كانت الخدمات الحيوية العامة ضئيلة في القرى والمدن، وضعيفة بما لا يقاس، ولا أمل للعائدين في حياة اقتصادية منتجة داخل المشروع المنهار أكثر مما انهارت العاصمة الخرطوم.

ويقول المزارعون إن المشروع الآن يعاني من حالة شلل تام، وتغيب منه القوانين الحاكمة، وأصبحت العلاقة بين المزارع والحكومة علاقة جباية فقط، وتحولت الحكومة من ممولة إلى جابية للضرائب لمحاصيل تم ري أغلبها بالأمطار بعد أن اضمحلت مياه الري، وساهمت السياسات الخاطئة في الإخلال بقاعدة أساسية للري قام عليها المشروع، وهي أن مشروع الجزيرة يروى انسايبيا، وتتحدرج مياهه من أول مورد إلى أقصى مدى بكل سهولة.

ويضيف الناير: "الأمر الأكثر خطورة هو أن المفتشين المختصين تركوا مهاهم الأساسية وتحولوا إلى مجرد جباة للضريبة التي تفرضها الحكومة".

ومنيَّ مزارعون العام الماضي بخسائر فادحة بسبب البون الشاسع بين تكلفة الإنتاج وأسعار المحاصيل في السوق، خصوصا محصول القمح، بعد أن رفصت الحكومة والبنك الزراعي استلامه بالسعر التركيزي المعلن.

وفي ظل الحرب الحالية ربما يدخل المزارعون في منافسة غير متكافئة مع محاصيل زراعية شبيهة لكنها واردة ومنتجة في ظروف تدعم فيها تلك الدول المنتج، وهو ما يؤدي تلقائيا إلى عزوف صغار المنتجين عن الزراعة، لكونهم من أكثر الفئات تضررا من الواقع الحالي.. وحينها سينامون جنبا إلى جنب مع المجاعة ونقص الغذاء.

معرض الصور