31/12/2023

الرصاص الطائش، القتل العشوائي برمية مجهول

علي طاهر

قعقة الرصاص، ودوي المدافع داخل مدن السودان الكبرى يرتفع كل لحظة، وأصوات الأسلحة المرعبة تملأ الفضاء، وكأنها تحتفل بالقتل والدمار، وأشلاء الناس المقطعة فوق الأرض، الآلاف رحلوا في موتٍ جماعى نتيجة ضربة هاون وقذائف طيران ومسيرات، فيما ذهب المئات ضحايا الرصاص الطائش من رميه مجهول ، طلقات كلاشنكوف ودوشكا ضالة، تأتي من بعيد مسرعة وتستقر في الرأس والصدر، لا تفرق بين أمرأة أو رجل، صغير كان أم كبير، الشئ الوحيد الذي تقدمه هو، تحرير شهادة وفاة بشكل سريع لضحاياه في الحال.

"أحمد" شاب في العشرين من العمر جلس حزينًا أمام منزله المتواضع بضاحية شرق النيل، شرق العاصمة السودانية الخرطوم، وسبب حزنه العميق هو رحيل شقيقه الأكبر "محمود" بطريقة مأساوية حيث قال والدموع تتساقط من عينيه الصغيرتين : مات شقيقي العائل الوحيد للأسرة، كان يعمل" كمساري" حافلة خط السوق المركزي الخرطوم، وفي أحد المشاوير العاثرة تزامن تواجده هناك مع ضرب طيران، أصيب بشظية في رقبته، إلا أنه نجا باعجوبة، وفرحته بالشفاء لم تدم طويلًا لأن الموت كان يلاحقه، بيد أنه بعد مرور أسبوعين فقط من الحادث الأول، تفاجأنا به الصباح وهو غارق في دمائه بعدما اخترقت رصاصة طائشة رأسة، أسرعنا به إلى المستشفى، وهناك قال الطبيب : لقد توفى قبل 7 ساعات، مات مقتولًا، ولم نعرف حتى اليوم من هو الجاني، ولم نستطع عمل أي نوع من الإجراءات لأن القانون معطل، والبلاد في حالة سيولة أمنية.

القتل العشوائي هنا في الخرطوم، مدني، الأبيض ودارفور لم يتوق البتة، وقلوب الناجين الواجفة في تلك المناطق، تخفق بشدة، لأن شبح الموت يطارد الجميع في الشوارع، ويلاحق أرواحهم في البيوت ولم يترك حتى الذين نزلوا تحت قاع المدن، أو تلك المجموعات التي تشردت عند أطراف أريافها البائسة المعدومة من قيمة الحياة، وهناك في قرية بالريف الشمالي لمدينة بحري استجار رجل مصاب بطلق طائش على المستوى الرأس بمركز صحي صغير محدود الامكانيات، وبالرغم من الجهود التي بذلها الكادر الطبي لم يستطع إيقاف النزيف المتراكم داخل المخ فخرجت روحه وتركت جسده بلا حراك.

عندما انتشر الرصاص بكثافة وسط احياء مدينة بحري القديمة واشتد القتال الضاري، أضطرت مجموعات من السكان الهروب من منازلهم بعد تعطل الحياة واختفاء معينات المعيشة، خرج "عبدالله" مع أسرته الصغيرة ونزل ضيفًا عند أصهاره في منطقة الحاج يوسف الردمية، ظل جسده هنا في شرق النيل، وقلبه بمنزله وسط بحري، وبعد شهر من التهجير القسري قرر العودة إلى المنزل، هكذا ساقه قدره العاثر، وصل هناك عصرًا، توضأ وعندما بلغ السجدة الثالثة اخترقت رصاصة ضالة رأسه أودت بحياته في الحال سقط فوق المصلاة التي انصبغ لونها بالدماء، القلق الذي ساور أسرته لم يجعلهم ينتظروا كثيرًا، ذهبوا الصباح الباكر بحزرًا شديد حتى وصلوا المنزل وعثروا عليه جثة هامدة، ولم يسمح لهم الوضع الذهاب إلى المقابر فاضطروا دفنه داخل فناء المنزل، ثم حزموا حقائبهم وغادروا نهائيًا إلى مدينة كسلا شرق السودان.

ولم يتوقف الرصاص الطائش عند هذا الحد من القتل مجهول الهوية ، لازال يواصل حصد ضحاياه ويضيف إلى قائمته السوداء عددًا جديدًا من الموتى، أمس القريب اعدت إمراة وجبة عشاء فقيرة لأطفالها الصغار، وبعد ذلك خلدوا للنوم، وذهبت هى أيضًا، وضعت همومها وسادة على رأسها المليئ بمشاكل تربية أطفال الزغب، عند منتصف الليل استيقظ إبنها الكبير، فوجد والدته المسكينة جثة هامدة، وفراشها مليئ بالدماء، باغتها طلقة دوشكا ضالة في الجانب الأيمن من الرأس، وسط بكاء أطفالها الصغار خرجت جثتها من منزلها المتواضع بمنطقة الشقلة الحاج يوسف إلى مقابر البنداري المجاورة.

"فردوس" امرأة محظوظة لأن الطلقة الطائشة لم تصبها في مقتل، كما أصابت المئات من الضحايا، كانت الزوجة المتوسطة العمر تجلس وسط بناتها تحت عريشة منزلهم بالحاج يوسف الردمية مربع 20، عندما اخترقت رصاصة ضالة ساعدها الأيسر، فتحت ثقب اندفع منه شلال دماء، صرخات بناتها الصغار استدعى الجيران، وتم إسعافها إلى مستشفى البان جديد، وفي اليوم الثاني تم إجراء عملية جراحية ناجحة تم استخراج المقذوف الضال الذي ترك أثارًا نفسية سيئة عند الضحية وأسرتها.

معرض الصور