01/01/2024

لجنة ``تقصي حقائق`` إنتهاكات الحرب

خالد ماسا

ولا أظن بأن متحف التاريخ البشري في الحروب قد شهد حرباً "نموذجية" تُراعي الإلتزامات الأخلاقية والدينية والقانونية التي أُتفِق عليها لتكون هي الحاكمة لمشهد الحرب الذي صار هو الضرورة في علاقات الشعوب والبلدان فما أن عُرض هذا المشهد في أي مكان إلا وكانت "الإنتهاكات" هي المتلازمة التي لاتفارق الرصاص وصار المكتوب بعناية في نصوص العهد الدولي لحقوق الإنسان مجرد "ديباجات" يتم إستدعائها متى ما إحتاجت قاعات الإحتشاد الدولي في الامم المتحدة لخطابات الشجب والإدانة والإستعراض النظري لصحائف الالتزام الإنساني.

وبالتاكيد لم تكن حرب أبريل 2023م في السودان الإستثناء من بين الحروب في العالم في بلد لم تُنجيه أوقات السلم من الإنتهاكات فمابالك باوقات حرب طالت هذه المرة كل مدن السودان ولم يات الجدال في أسابيع الحرب الأولى حول "من أطلق الرصاصة الأولى" إلا للإدراك التام بأن هذه الحرب ستنطوي على صحيفة إنتهاكات يندي لها جبين الإنسانية فعمل كل طرف فيها لاتخاذ الاحترازات اللازمة للتنصل من مسؤوليتة عن هذه الانتهاكات.

إنتظر المجتمع الدولي ستة أشهر من عُمر الحرب في السودان ظناً منه بأنه يختبر إلتزام طرفيها بحماية المدنيين من الإنتهاكات حتى "تنحنحت" الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا والمانيا والنرويج في الخامس من أكتوبر بطلب لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بارسال بعثة "تقصي حقائق" للسودان بغرض مراقبة مايحدث من إنتهاكات.

وبغض النظر عن بطء التفاعل من المجتمع الدولي مع حرب السودان فان الآلية التي صدر بها قرار تشكيل بعثة دولية لتقصي الحقائق في السودان توضح بشكل كبير بأن إدعاء المجتمع الدولي بمناصرة حقوق الإنسان هو إدعاء زائف إذ أنه ومن بين 38 دولة يحق لها التصويت على صدور القرار صادقت عليه 19 دولة بينما صوتت ضده 16 دولة رأت بان ما حدث في نصف عام من الحرب في مدن السودان لم يكن كافياً لتحرك آليات المجتمع الدولي قرون إستشعارها لتعرف حجم الانتهاكات التي أودت بحياة أكثر من 10 الف مدني ودفعت مايزيد عن 7 مليون سوداني لإختيار النزوح ومايقارب 2 مليون لاختيار اللجوء بينما رأت 3 دول بأن الأمر لايستحق حتى التصويت عليه فامتنعت عن التصويت، التحليل البسيط لنسب هذا التصويت يوضح الى أي مدى المجتمع الدولي منقسم على نفسه في المواقف ومنقسم باتجاه القيم التي يرفع شعاراتها.

وعلى الرغم من أن بعثة تقصي الحقائق بطبيعتها ليست ذات ولايه قضائية وتقتصر مهامها في حدود لاتتجاوز فيها إثبات الوقائع في ما يتصل باحداث وإدعاءآت وقوع إنتهاكات للقانون الدولي لحقوق الإنسان وتقييم هذه الوقائع على ضوء مجموع القوانين واجبة التطبيق ومن ثم التوصل لاستنتاجات بشأن الانتهاكات ومرتكبيها ومن ثم كتابة التوصيات  للجهات المعنيه إلا أن وزارة الخارجية السودانية كانت قد إستبقت صدور القرار بموقف الرفض بحجة أنه يساوي بين الجيش وقوات الدعم السريع في ما يخص تهم الانتهاكات.

بينما لم تجد قوات الدعم السريع غير ذريعة "المتفلتين" لتنفي عن نفسها جملة الانتهاكات التي طالت المدنيين في مناطق سيطرتها والمناطق التي دخلتها قواتها وكانت آخرها في ود مدني حاضرة ولاية الجزيرة.

تعرض قافلة الصليب الاحمر التي كانت تقوم باجلاء مدنيين في منطقة الشجرة لاطلاق النار ووقوع ضحايا وجرحى بسبب ذلك وإعلان منظمة أطباء بلاحدود لايقاف عملياتها في ولاية الجزيرة وإجلاء طواقمها من هناك بسبب التعديات عليها يشير بجلاء الى أن مياهاً كثيرة قد مرت تحت جسر عجز المجتمع الدولي وعدم مقدرة قاضي المحكمة العليا في تنزانيا / محمد  شاندي عثمان ورفاقه في لجنة تقصي الحقائق من تمكين اللجنة من ممارسة مهامها حتى الان.

التجربة والذاكرة السودانية مع هذا النوع من اللجان والبعثات ليست جيدة. والواقع يقول بأن سجل الإنتهاكات محتشد بكل ماتم توصيفة بجرائم حرب حسب الشرعة الدولية. ومع ذلك فان الإفلات من العقاب هو الذي شجع آخرين لتسجيل وقائع جديدة ضد المدنيين السودانيين وإستمرار الحرب لايجعل البيئة مناسبة لعملية الاستقصاء هذه. ومالم يتوقف الرصاص ونزيف الدم ستتراكم سجلات الانتهاكات وستمثل الحرب الغطاء المثالي لمرتكبيها.

وقد لانحتاج لكثير أمثلة حتى نثبت أن "الإستقلالية" المذكورة في ديباجة تشكيل هذه اللجان ماهي الا لافتة لاتنجو من تأثير الاجندات والمصالح المتقاطعة والارتباطات السياسية للدولية التي تدفع ثمنها الشعوب.

"التوثيق" بحياد وإستقلالية ومهنية لهذه الجرائم والإنتهاكات هو مسؤولية منظمات المجتمع المدني السوداني وكل المهتمين بالاوضاع الحقوقية بما يوازي المجهود الكبير الذي يقومون به الآن تحت القصف ووابل الرصاص وفي معسكرات مدن  النزوح بموارد شحيحة وذاتية وإنتهاكات تطال حتى  عضويتها العاملة على تخفيف وطأة هذه الجرائم والإنتهاكات.

معرض الصور