04/01/2024

العَدَالَةُ الانْتِقَالِيَّة بَيْنَ الوَاقِعِ السُّودَانِيِّ والتَّجَارِبِ العَالَمِيَّة‎ (3 – 3)

كمال الجزولي
V
التَّاريخ الفعلي لنشأة مفهوم "العدالة الانتقاليَّة" غير معروف بدقة. فقد جرى تداوله، ابتداءً، في حقل السِّياسة الفرنسيَّة. لكن ظهوره، بدلالته التَّطبيقيَّة الرَّاهنة، يعود إلى العام 1992م، في كتاب من ثلاثة أجزاء حرَّره نيل كيرتز بعنوان "العدالة الانتقاليَّة: كيف تنظر الدِّيموقراطيَّات الوليدة إلى الأنظمة السَّابقة"، ويضم أهمَّ الكتابات الباكرة التي استخدم فيها المفهوم ضمن أدبيَّات السِّياسة والقانون في مختلف البلدان، باعتباره مفهوماً استثنائيَّاً يقرن بين مفهومي "العدالة" و"الانتقال"، كما قد رأينا، ويشتغل فقط في البلدان التي تروم استدبار الأوضاع الشُّموليَّة، وإقرار السَّلام، وإنجاز التَّحوُّل الدِّيموقراطي، وترميم شروخات الجَّبهة الدَّاخليَّة، والسَّير باتجاه إعادة البناء الاجتماعي، وتحقيق "المصالحة" الوطنيَّة الشَّاملة، وذلك من فوق تاريخ مثقل بتركة انقسام اجتماعي ناجم عن حرب أهليَّة متطاولة، أو نزاعات داخليَّة مسلحة، أو ممارسات إبادة جماعيَّة، أو قمع وحشي عام، أو تعذيب منهجي للخصوم السِّياسيِّين، أو ما إلى ذلك من انتهاكات حقوق الإنسان، أو جرائم الحرب، أو الجَّرائم ضدَّ الإنسانيَّة. ويستند مفهوم «العدالة الانتقاليَّة»، من النَّاحيتين التَّاريخيَّة والفكريَّة، إلى ركيزتين أساسيَّتين:

الأولى: مجتمعيَّة، فبفضل تطوُّر حركة حقوق الإنسان تمحور المفهوم حول مركز «الضَّحايا»، حيث انصبت الجُّهود على حقوقهم، وحقوق أسرهم، وحقوق المجتمع ككل، فرديَّاً وجماعيَّاً، إذ بغير ضمان هذه الحقوق تبقى الجِّراح مفتوحة تهدِّد بانهيار أيِّ مسعى لـ «السَّلام» أو «الاستقرار».

الثانية: سلطويَّة مستقاة من القانون الدَّولي الإنساني، والقانون الدَّولي لحقوق الإنسان، حيث تُلزم بلدان الفترات الانتقاليَّة بـ:
أ/ وقف الانتهاكات الجَّارية لحقوق الإنسان،
ب/ تفعيل العدالة إزاء الجُّناة في الانتهاكات السَّابقة،
ج/ جبر الضَّرر بالنِّسبة للضَّحايا، وذويهم، والمجتمع من حولهم، فرديَّاً وجماعيَّاً، ومنع الانتهاكات المستقبليَّة، وتدعيم السَّلام، وتعزيز المصالحة الفرديَّة والجَّماعيَّة.

ويعترف المفهوم، كمنهج، بكون «التَّحوُّل» أو «الانتقال»، بقدر ما هو عمليَّة محفوفة بفرص قيام ديموقراطيَّات مبتكرة، وتأسيس أجواء سلام مستقرَّة، هو، أيضاً، عمليَّة معقَّدة، تحتوشها المعوِّقات، ومخاطر الانتكاس. فمثلا، يمكن أن تنبني هذه العمليَّة على مفاوضات مطوَّلة، فتفضي إلى سلام ضعيف، أو ديموقراطيَّة هشَّة، أو يكون عدد المنتهكين كبيراً، مِمَّا قد يفوق القدرة على التَّعامل معهم؛ أو يكون عدد الضَّحايا أو ذويهم، مِمَّن يرغبون في رواية قصصهم ونيل التَّعويضات، كبيراً، أيضاً؛ أو توجد معوِّقات دستوريَّة أو قانونيَّة ناجمة عن جولات تفاوض سابقة، كالعفو عن مجرمين مرتبطين بالنِّظام السَّابق؛ كما وأن الدِّيموقراطيَّات الوليدة قد تعاني من تدخُّلات السُّلطة البائدة «الدَّولة العميقة أو الخفيَّة»، أو تأثيرات مجرمي النِّظام السَّابق، مِمَّا يجعل المفهوم منتقَصاً من ناحية قيم أخرى مهمَّة، كالسَّلام الرَّاسخ، والاستقرار الدِّيموقراطي، وسيادة حكم القانون، والمساواة أمامه، وتحقيق العدالة للضَّحايا وأسرهم .. الخ.

أمَّا الملابسات التَّاريخيَّة لتطبيقات المفهوم والمصطلح فلم تقع بضربة واحدة، وإنَّما بالتَّدريج، عبر خبرات مختلف البلدان والشُّعوب كما سبق أن أشرنا:
ففي أوروبا الغربيَّة ووجه العالم بمحدوديَّة نموذجي "نورمبرج وطوكيو"، على أهميَّتهما التَّاريخيَّة، بعد الحرب الثانية، إزاء ملايين الضَّحايا من المدنيِّين، فأخذت الحاجة إلى «العدالة الانتقاليَّة» تتبلور، من ثمَّ، كمفهوم وكمنهج عمل أكثر نضجاً وجدوى، مـع ارتفـاع المناقشـات، لاحـقاً، حـول محاكمـات جـنرالات اليونان (1975م)، والأرجـنتيـن (1983م)، وملاحقة القادة النازيِّين الفارِّين، والقبض عليهم، ومحاكمتهم.

وفي أوربا الشَّرقيَّة أسهمت الجهود المجتمعيَّة بشأن التَّعامل مع انتهاكات الماضي، في فتح ملفَّات وكالات الأمن السَّابقة، مثل «قانون سجلات استاسي في ألمانيا 1991م»، كما وفي الدَّفع بالنِّضال العالمي من أجل العدالة خلال فترات الانتقال السِّياسي.

وفي أمريكا اللاتينيَّة أسهمت مؤسَّسات الكشف المدنيَّة عن «الحقيقة»، مثل «اللجنة القوميَّة الأرجنتينيَّة لتقصِّي المختطفين، 1983م»؛ والجهد غير الحكومي في الأورغواي، والذي أفضى إلى التَّقرير الأشهر «الأورغواي: ليس مرَّة أخرى»؛ و«لجنة الحقيقة والمصالحة التشيليَّة، 1990م»، إسهاماً كبيراً في تطوير مفهوم «العدالة الشَّاملة» خلال فترات «الانتقال»، استناداً إلى أن «الحقيقة» مبدأ جوهري لا يجب الانتقاص منه. كما وأن الجُّهود الإضافيَّة لتعويض الضَّحايا في الأرجنتين وتشيلي أسهمت أيضا في توفير العدالة للضَّحايا.

وفي أفريقيا، واستهداءً بتجارب أمريكا اللاتينيَّة وشرق أوربا، كوَّنت جنوب أفريقيا، في 1994م ـ1995م، «لجنة الحقيقة والمصالحة» لتتناول جرائم التَّفرقة العنصريَّة. ومنذ ذلك الوقت، أصبح نموذج هذه «اللجنة» آليَّة عالميَّة لـ «العدالة الانتقاليَّة»، حيث تكونت لجان مشابهة في تيمور الشرقية، وغانا، والبيرو، وسيراليون، والمغرب، وغيرها، رغم تمايزها، وابتداع كلٍّ منها أسلوبه الخاص، كإضافة «الإنصاف» بين «الحقيقة» و«المصالحة» في تجربة المغرب، بالمفارقة لتجربة جنوب أفريقيا.

وأمَّا المنطق وراء الحاجة لاجتراح نمط "العدالة الانتقاليَّة" فيقوم على عدَّة عناصر، منها:
(1) ضخامة الجَّرائم المرتكبة خلال الفترة السَّابقة على الانتقال، والمكوِّنة لتركة الماضي المراد تصفيتها، رأسيَّاً من حيث النُّوعيَّة، وأفقيَّاً من حيث أعداد المنتهكين والضَّحايا، بحيث تصعب معالجتها جميعها عن طريق إجراءات المحاكم العاديَّة.

(2) قيود التَّقاضي العادي أمام المحاكم الجَّنائية، وصرامة قواعده، مثل:
أ/ الإثبات دون الشَّـكِّ المعقـول beyond a reasonable doubt، والـذي يسـتوجـب التَّثبُّت، والتَّبيُّن، وعـدم استعجال الإجراءات، فهو، بالتَّالي، من ثمَّ، لا يفي بالكشف عن نطاق واسع من الجَّرائم.
ب/ اصطدام بعض إجراءات التَّقاضي العادي، كعرض العفو Pardon مقابل تقديم إفادات عن أدوار الشركاء King s Evidence، ببعض المبادئ القانونيَّة الدَّولية التي لا تقبله في حالات الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان وللقانون الدَّولي الإنساني.
ج/ حصانة المعلومات التي يدلي بها الشهود أمام جلسات الاستماع من أن تستخدم في الدعاوى ضدهم أمام المحاكم العاديَّة، في ما إذا رفض الضَّحيَّة أو ذووه العفو، وأختاروا أن يتَّجهوا إلى التَّقاضي أمام المحاكم التَّقليديَّة، فهذه المعلومات مطلوبة لا للإثبات الجَّنائي، بل، فقط، للكشف عن «الحقيقة» أثناء «الاستماع العمومي».

لقد أفضى جدل التطوُّر الطبيعي لعلاقات وصراعات المجتمع المدني مع النِّظام السَّابق في المغرب إلى إحداث تحوُّل أكثر تأثُّراً بالدِّيموقراطيَّة داخل بنية النِّظام نفسه، بينما أفضى، في تجربة جنوب أفريقيا، إلى نموذج مغاير، بالاتِّجاه لإنجاز القطيعة التَّامَّة مع نظام الفصل العنصري السَّابق. لقد اضطر الكثير من الجَّلادين لمواجهة ضحاياهم في جنوب أفريقيا، وقدموا اعترافات علنيَّة بما اقترفوا، كما وتمكَّن الضحايا في المغرب من "إسماع أصواتهم من منبر عمومي رسمي .. (و) تأسيس حكي وطني حول المعاناة والآلام الماضية" (أنظر: التَّقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة المغربيَّة).

ولئن استندت التَّجربة في بيئات الثَّقافة المسيحيَّة، كما في جنوب أفريقيا، إلى التَّعاليم الكنسيَّة بشأن فضيلة التَّسامح والعفو، فمِمَّا يرجِّح سداد تطبيقات التَّجربة، أيضاً، في بيئات الثَّقافة الإسلاميَّة، كالمغرب، أن تعاليم الإسلام نفسه قائمة، في هذا الجانب، على الإعلاء من فضيلة "العفو عند المقدرة". ويقيناً تكفل آليَّة "الاستماع العمومي"، وما شابهها، هذه "المقدرة" بحمل الجَّلادين ونظامهم السِّياسي على "الاعتراف" بـ "الحقيقة" علناً، أو، على الأقل، بتمكين "الضَّحايا" من رواية "ما جرى"، علناً أيضاً، مع طلب المنتهكين «العفو» من «الضَّحايا».

VI
ونسبة لِما لجلسات «الاستماع العمومي» من موقع مركزي في سياق مشروعات «العدالة الانتقاليَّة»، تلزمنا العودة، هنا، بمزيد من إضاءة أبرز خصائصها، على النَّحـو الآتي:

(1) تنعقد في قاعات مفتوحة، ويشارك فيها المنتهكون، والضَّحايا، وذووهم، ويتاح حضورها، بلا أيِّ قيود، للجُّمهور عموماً، وللإعلاميِّين والصَّحفيِّين خصوصاً، وتنقل وقائعها الصُّحف الورقيَّة، والوسائط الإليكترونيَّة، وأجهزة الراديو والتَّلفزة، المحليَّة والأجنبيَّة، وما إليها.

(2) تُعرض خلالها على المنتهكين صفقة الإدلاء، أمام الضَّحايا، باعترافات كاملة عن «حقيقة» ما جرى، دون أدنى محاولة لإخفاء أدقِّ تفصيلة، مقابل أن يستجيب الضَّحايا لـ «العفو» الذي يطلبه المنتهكون منهم في نهاية اعترافاتهم. وعندما سُئل مانديلا عن ضمانته لهذه الاستجابة بعد أن يكون المنتهك قد أدلى بكامل اعترافه، أجاب قائلاً: «إنني أثق في طيبة قلب الإنسان»، فضلاً عن أن مثل هذا الاعتراف محصَّن، كما سبق أن قلنا،، أمام الضَّحايا، من الاستخدام في معرض الإثبات الجنائي من قِبل الضَّحايا الذين لا يقبلون بممارسة «العفو»، ويقرِّرون اللجوء إلى «المحاكم التقليديَّة»، فعليهم أن يتحمَّلوا كامل عبء الإثبات وحدهم.

(3) إذا وافق المنتهكون على صفقة الاعتراف، لكن أخلوا بشرط عدم إخفاء أدنى تفصيلة، فإنهم يفقدون الحقَّ في طلب «العفو».

(4) إذا حدث وعفا الضّحايا تُقدَّم لهم مختلف أنواع «جبر الضَّرر»، مادِّيَّاً ومعنويَّاً، أما المنتهكون الذين ينفذون شرط «الاعتراف» كاملاً، فيُفرض عليهم القيام بأشكال مختلفة من «الخدمة الاجتماعيَّة social service» التَّطوُّعيَّة لمدد زمنيَّة محدَّدة.

(5) "جبر الضَّرر» قد يكون فرديَّاً، أو جماعيَّاً. الأوَّل ربَّما يشمل «التعويض المالي ـ الوظيفي ـ التَّعليمي ـ الإسكاني» .. الخ؛ أما الجَّماعي فقد يشمل «التَّمييز الإيجابي لمناطق بأكاملها، أو إثنيَّات أو شرائح اجتماعيَّة بعينها ـ تخليد الضَّحايا بالتَّماثيل والأنصاب التِّذكاريَّة ـ الإصلاحات المؤسَّسيَّة للقوانين، وآليَّات القضاء، والنيابة، والشُّرطة، والأمن، والسجون» .. الخ.

* باختزال من ورقة قُدِّمَت أمام اللقاء التَّفاكري الثَّاني، بالدَّوحة، تحت عنوان "عناق الآخر"، 22 ـ 24 أغسطس 2012م؛ و مداخلة ضمن ندوة «رؤى وآفاق التَّحوُّل الدِّيموقراطي في السُّودان» التي أقيمت بـ «المقهى الثَّقافي» في «معرض الخرطوم الدَّولي» مساء 28 أكتوبر 2019م، ونعيد طرحهما هنا بتصرُّف.

معرض الصور