10/01/2024

إقامة العدالة الانتقالية في سودان ما بعد الثورة 4-4

د. سامي عبد الحليم سعيد
خامساً: العدالة التصالحية:
كما سبق أن ذكرنا، مثلما يمكن تطبيق العدالة الانتقالية عبر مؤسسات قضائية وطنية، فإنها كما رأينا في التجارب الدولية، من الممكن تطبيق العدالة الانتقالية من خلال مؤسسات عدلية غير وطنية. وكما سبق الإشارة، قد لا تتخذ العدالة صورتها القضائية الرسمية، مثلما قد تتخذ صوراً غير نمطية للعدالة، بما في ذلك استخدام الوسائل غيرالقضائية، وهذه الأخيرة قد تشمل توظيف الآليات الشعبية والعادات والتقاليد، والمؤسسات الشعبية في تحقيق العدالة. وهو ما يسمّى بالعدالة التصالحية. فقد تمّ إستخدام مفهوم الحقيقة والمصالحة على نطاق واسع في افريقيا وأمريكا اللاتينية، وتطور إلى استراتيجية عالمية فعالة للتعامل مع جرائم الحرب وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان. وتعتبر لجان الحقيقة والمصالحة أنّ مواجهة الماضي وكشف حسابه ضرورياً للنجاح في الإنتقال من حالة الصراع والتوتر والإستياء إلى السلام والترابط.

ومن المعلوم أن نهج العدالة التصالحية يشمل على الأقل أربعة عناصر هامة وهي: كشف الحقيقة، العدالة، الرحمة (العفو)، السلام. إذ أنّه من المعتقد أن الشفاء الحقيقي يتطلب ثلاث خطوات أساسية: تذكر الفظائع التي ارتكبت، ثم التوبة، والعفو.

إذ أنّ التحقيق في جرائم الحرب ولجان تقصي الحقائق يمكن أن تساعد في عملية الذاكرة وكشف الحقيقة، وتساعد على إلمام الجمهور بالمدى الذي عانت منه الضحايا. وتسعى لجنة الحقيقة والمصالحة الى مداواة العلاقات بين الجانبين المتخاصمين من خلال كشف جميع الحقائق ذات الصلة ، تميز الحقيقة من الأكاذيب، إتاحة الإقرار والإعتراف بالجرم، أن تكون منبراً للعزاء والحداد العام، ومناسبة للغفران والشفاء.

1ـ أشكال وأنماط العدالة التصالحية:
قد تأخذ العدالة التصالحية عدة أشكال على الصعيد الوطني، لا سيما ان التجارب الشعبية، والميراث الشعبي ملئ بتطبيق العدالة التصالحية على النزاعات الاهلية والجرائم الشخصية، وحالات الاعتداء على الممتلكات. فيما يلي نحاول ان نرصد بعض انماط العدالة التصالحية الممكنة:

مجالس الصلح
العديد من النزاعات في المجتمعات الريفية و القبلية، تتعدى الاشخاص المباشرين (الجاني و الضحية) إلى أهل وقبائل الاطراف. إنتشرت في العديد من المجتمعات السودانية تجربة (مجالس الصلح)، كنمط من أنماط العدالة التصالحية ، ويجد مجالس الصلح أساسها في المجتمعات القبيلة، و التي تحاول ان تتدارك أخطاء و انتهاكات الاشخاص من خلال التصالح، وتعزيز الترابط والسلم الاجتماعيين. تتخذ الوساطة صورة اجتماع الضحية والمجرم، في مكان واحد، وجها لوجه، ويحضر بجانب الضحية (او الضحايا) والجاني (أو الجناة) أهاليهم وأقربائهم، وقد يتم دعوة زعماء من قبائل أخرى أو رجال دين مرموقين، وقد تشمل أطراف أكثر، مثل أفراد أسرة الضحية أو الجاني، أصدقاء من المجتمع، والمدرسين، والجيران ، أو المستشارين.

تتم إجتماعات الصلح من خلال دعوة يدعو لها أحد الشخصيات الوقورة في المجتمع، فيلعب دور الميسر، وفي تنظيم الحوار، واستخدام مؤثرات إجتماعية، ويحفز القيم الدينية والمجتمعية لتساعد المجتمعين للحصول على حل للنزاع القائم بين الطرفين. قد يشارك كبير العائلة أو ممثلها بالحديث بالإنابة عن أسرة الجاني أو أسرة الضحية.

التعويض
وهذه ايضاً أحد انماط العدالة التصالحية، التي أثبتت فعاليتها في العديد من التجارب المشابهة. إن التعويض مرتبط بدرجة كبيرة بإجراءات مجالس الصلح، فهو غالباً ما بتم إبتداره داخل مجالس الصلح. في إجتماعات الصلح بين الضحية والجاني ، تتاح لأهل الجاني فرصة طرح مبادرة لتقديم التعويض لضحاياهم أو لأسرهم. وبحسب التجارب السودانية في هذا الصدد، قد يكون التعويض نقدى او غير نقدي، كأن يكون في صورة عدد من الماشية أو الأغنام. و قد يطلب من الجاني القيام ببعض الأعمال لصالح الضحية، أو لصالح إحدى الجمعيات الخيرية التي يختارها الضحية أو أهله.

اذا كانت الجريمة تتعدى الاذي الجسدى الى السرقة او الاستيلاء على الممتلكات، فإن على مجلس الصلح ان يعالج هذه المسألة بشكل شمولي.

الحقيقة والمصالحة
بحسب التجارب الدولية في إجراءات المصالحة، نجد أنه تتاح الفرصة للضحايا أو ذويهم، أن يسردوا قصص معاناتهم، و يعطوا للجناة فرصة مواجهة حقيقة ما قاموا به من فظائع وانتهاكات. وهذا الجانب لا يجد الاهتمام الكبير في مجالس الصلح السودانية، برغم أنها موجودة بصيغ مختلفة، حسب طبيعة كل حالة وكل مجموعة اجتماعية. كما تتاح الفرصة للجاني أن يشرح ظروف ارتكابه للجريمة، وما هي دوافعه في ذلك الوقت، وشرحا لكيفية وقوع الجريمة وفي الغالب يتضمن حديث الجاني او من يمثله اعتذارا وأسفاً. من المهم في التطبيقات السودانية اتاحة الفرصة لسرد القصص وكشف الحقائق، لأن في ذلك تسهيل لإعادة التعايش السلمي.

حتى تنجح تجربة مجالس الصلح في السودان، في السياق التاريخي الراهن، في تحقيق العفو وتعزيز السلام الاجتماعي، تحتاج أن يتم تدعيم هذه الآلية بإضافة عدد من الإصلاحات الهيكلية، ومن بين ذلك بتقديم الدعم المادي والنفسي والاجتماعي للضحايا وكذلك تأهيل الجناة بالصورة التي تضمن بقائهم في المجتمع بصورة سلمية و فاعلة.

2ـ أهداف العدالة التصالحية:
ويمكن إختصار أهداف العدالة التصالحية في الآتي:
- العدالة التصالحية معنية بشفاء الضحايا من الجروح، واستعادة المجرمين لحياتهم الطبيعية، والالتزام بالقانون وإصلاح الأضرار التي لحقت بالعلاقات الاجتماعية.
- وتسعى إلى إشراك جميع أصحاب المصلحة، وتوفير الفرص للضحايا للمشاركة بنحو مباشر في عملية كشف الحقيقة. الضحايا والجناة والمجتمعات المحلية المتضررة هم جميعهم أصحاب المصلحة الرئيسية في العملية التصالحية.
- العدالة التصالحية تهدف في المقام الأول إلى توفير إحتياجات الضحايا المادية والاجتماعية والنفسية.
- العدالة التصالحية هي عملية تطلع للمستقبل، وفي نفس الوقت إستجابة وقائية تسعى إلى فهم الجريمة في السياق الاجتماعي الذي حدثت فيه. من دواعي التطلع للمستقبل دراسة الأسباب الجذرية للعنف والجريمة من أجل الحد منها وكسر دورات تكرارها.
- إن من مهام العدالة التصالحية، ان تنظر للعدالة بصورة متسقة مع أهداف بناء السلام في المرحلة الانتقالية، ومن ذلك إعادة تأهيل المجرمين وادماجهم في المجتمع المحلي من الجوانب الحيوية للعدالة التصالحية. إن عملية العدالة بهذه الطريقة تقوي النسيج الإجتماعي وتشجع على التغييرات التي سوف تمنع حدوث أضرار مماثلة في المستقبل.
- ينبغي أن تكون العدالة التصالحية متكاملة مع العدالة القانونية باعتبارها عملية مكملة لتحسين نوعية وفعالية وكفاءة العدالة ككل.

تجارب الانتقال السياسي في البلدان النامية أعطتنا العديد من الدروس التي يمكن الاستفادة منها بصورة تتناسب مع الحالة السودانية. و قد نجد ضمن تلك التجارب، ما قد ابتدع من اساليب غير قضائية تساعد في تحقيق الرضاء الشعبي و تعمل على رتق النسيج الاجتماعي وبناء الثقة بين مكونات الشعب والأجهزة الحاكمة. هناك حالات كانت فيها الجرائم كثيرة بشكل كبير جدا، بالقدر الذي يمكن أن نقول فيه، إنها تفوق إمكانات مؤسسات الدولة، وفي ذلك قد يتم الاستعانة بافكار جديدة يكون الهدف منها إقامة الاستقرار والأمن في المجتمع و إزالة الكراهية والعدائيات.

ولأننا بصدد إنشاء عدالة على أعقاب ثورة شعبية ضد الدكتاتورية، فإننا نستعين بتجربة تونس بعد الثورة، حيث تم تكوين "هيئة الحقيقة والكرامة"، والتي أنشئت لمعالجة الجرائم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتقصي انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت، في الفترة من 1 يوليو 1955حتى ديسمبر 2013. تلقت الهيئة ما يزيد عن 62 ألف شكوى تتعلق بمجموعة كبيرة من انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك حالات الاحتجاز التعسفي والتعذيب والمحاكمات الجائرة والعنف الجنسي والتمييز الديني والعرقي. وعقدت الهيئة أولى جلسات الاستماع العلنية في 17 نوفمبر.

هذه الهيئة تقوم على تشجيع سياسة الإعلان عن الانتهاكات بواسطة مرتكبيها وطلب العفو والصلح. في جلسات علنية بحضور الضحايا أو أهلهم. وهناك العديد من التجارب لجلسات المصالحة والعفو ولكنا اخترنا هذا النموذج التونسي لكونه متسق مع حالة الثورة على الدكتاتورية. وبخصوص تطبيق العدالة الانتقالية في ظروف انتهاء النزاع المسلح في دارفور وكردفان والنيل الازرق، فمن المتوقع أن تشمل الوثائق الخاصة بالسلام آليات عديدة رسمية وغير رسمية للعدالة الانتقالية. وبخصوص الآليات غير القضائية للعدالة الانتقالية (العدالة التصالحية) في ظروف ما بعد النزاع المسلح، فإنه من الأمثل دراسة تجربة رواندا في توظيف المحاكم الشعبية التقليدية في معالجة انتهاكات الحرب الأهلية على المستوى المجتمعي. وبالتالي من المهم، توظيف الإرث الشعبي في إقامة العدالة في المجتمعات المحلية، المتأثرة بالنزاعات المسلحة والانتهاكات المرتبطة بها، لا سيما الإرث الغني في دارفور وجنوب كردفان، بحيث تكون ضمن آليات العدالة الانتقالية غير الرسمية.

بهذا التنوع في أساليب تطبيق العدالة، يتسع نطاق الوصول إلى العدالة، ويتسع نطاق الشعور بالرضاء العام، الأمر الذي يسهم بصورة مباشرة بالقبول والتعايش المشترك بين المكونات الاجتماعية التي شهدت عهداً طويلا من الحروبات والكراهية والانتهاكات.

معرض الصور