17/01/2024

حرب السودان: الديمقراطية ذريعة وصريعة!

خالد طه

(276) يوما وليلة من الرعب والدمار المتواصل فصلت بين السبت 15 ابريل 2023 والاثنين 15 يناير 2024، حيث دخلت الحرب بين "الجيش السودني" و"مليشيا الدعم السريع" امس شهرها العاشر. تلك الحرب التي استخدمت فيها كل نواع الاسلحة المميتة، واتسمت بعدم المهنية العسكرية وإنعدام الاخلاق. وانجلت اخيرا عن كونها محض (صراع على السلطة) رغم فداحة الثمن، ورغم تعدد مفردات الحشد والتجيش (نفرة وفزع قبلي - كما يسمى محليا - وإستنفار، ومقاومة شعبية، وكتائب موالية لهذا الفصيل او ذاك) اصبحت الحرب الاهلية في السودان واقعا مُعاشا.

تعددت المنابر والمبادرات لوقفها لكنها كلها انطوت على (شروط الوسطاء)، وإرتهنت لتقديرات الموقف العسكري التي أتت غير صائبة منذ البداية. بين كل هذه المعطيات الاّخذة في التعقيد اصبح التلويح بالعمل من أجل بسط الديمقراطية شعار يرفعه جميع لوردات الحرب، في محاولة لإستمالة الموقف الدولي المساند، وإستهلاك يغازل الجماهير في الداخل. فبينما كادت الحرب في السودان أن تتحول إلى وسيلة لحرب القوى الإقليمية والدولية بالوكالة، لم يعد مستبعدا إنزلاقها الى مستنقع اّسن يحول السودان الى ساحة لصراعات المصالح الدولية، ويقع شعبه في براثن الموت المجاني، كما هو الحال الان.

مدنية منحازة

تأخرت القوى المدنية السودانية كثيرا في رفع الصوت الداعي لوقف الحرب. ويعود ذلك إلى إصطفافات خاوية (مع وضد طرفي النزاع)، راهنت في البداية على حسم الصراع عسكريا وفي وقت وجيز، وعندما رفعت صوتها لم يخلو من إنحياز. لذا جاءت كل المبادرات المدنية منقوصة ومصنفة وعاجزة، عن فرض إرادة وقف الحرب، بل وسّعت الهوة بين الفرقاء اكثر، وبعض القوى المدنية اعلن رفضه لتلك الاطروحات لكونها لم تنطلق من دوافع الإنحياز لمصلحة الثورة السودانية والمدنيين الذين اجبروا على دفع فاتورة الحرب التي سعت بعض القوى السياسية الى إتخاذها وسيلة لتمرير مشاريع سياسية متصلة بالوصول الى السلطة عبر (بوابة وقف الحرب) بتيسير اقليمي ودولي في كل مرة.

من غرائب حرب السودان وغموض مجرياتها إحجام "مليشيا الدعم السريع" عن مواصلة الإستيلاء على مناطق اخرى بعد انفرضت سيطرتها على نحو 12 ولاية من اصل 18 ولاية سودانية، رغم تفوقها - بسلاح السند الخارجي، ودعمه الدبلوماسي والسياسي والاعلامي. بل ظلت تجأر مع حلفائها من المدنيين بضرورة التفاوض، رغم توفر القدرة على حسم المعركة حربا، والسبب واضح وبسيط وهو الخوف من فقدان المشروعية، وتحول القاعدة الإجتماعية الى الطرف النقيض، سيما وأن ممارسات منتسبي المليشيا لم تترك مجالا للقوى السياسية الحليفة للكشف عن ذلك التحالف، وضمان تأييد الشعب السوداني لها في ذات الوقت. بل أكتسبت "المقاومة السياسية المناوئة" مساحات إنحسر فيها مد القوى والاحزاب التي تحالفت مع المليشيا بدعوى تأييد الثانية للتحول الديمقراطي، بينما تنطبق ذات المخاطرة على الطرف الاخر الذي يقف فيه منتسبي الحركة الاسلامية خلف الجيش وامامه احيانا - مع الفارق في القدرة وممارسة الإنتهاك - ويقرب المشهد اكثر تصريح المستشار السابق برئاسة مجلس الوزراء السوداني أمجد فريد لقناة الحدث الذي قال فيه "يحاول الاسلاميون الإستفادة سياسيا من هذه الحرب، بالإنحياز لأحد طرفيها، كما تقوم (قوى الحرية والتغيير) بنفس المحاولة، بالانحياز للطرف الاخر. هذه هي الحقائق، وما عداها فاكاذيب".

لكن هنالك كتلة ثالثة - تشمل لجان المقاومة والاحزاب اليسارية وتشكيلات المجتمع المدني - ترى ان اطراف حرب الخامس عشر من ابريل تسعى للقضاء على قوى الثورة الحية، ومحاولة السطو على السلطة حربا أن تمكنت او بإتفاق بذريعة وقف الحرب، في حالة توازن الضعف او مضاعفة الضعط الخارجي على الاطراف اذا اتسعت تأثيرات الحرب على دول الجوار القريب والافليم، لذا فهي تنادي بمناهضة دعوات حمل السلاح مع اي من الاطراف ومنع تحول الحرب الى (اهلية شاملة) ومنع قيام إتفاق يفضي الى عودة كل او بعض اطراف الحرب وداعميهم الى سدة الحكم مرةً اخرى.

توحيد ام شمولية

بالرغم من المسافات الواسعة بين القوى المدنية، إلا ان الدعوات لتوحيد الحراك المدني لم تزل مستمرة مع إستمرار التخندق ووضع الشروط،. فبينما اطلقت تنسييقة القوى المدنية الديمقراطية "تقدم" التي تضم المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير والاقرب لمليشيا الدعم السريع والمدعومة من بعض دول الإقليم والعالم، ما وصفته بـ (خارطة الطريق) للمرحلة المقبلة واكدت على إنفتاحها لسماع اّراء الجميع، شددت رصيفتها المنقسمة منها والمتحالفة مع التيار الإسلامي "قوى الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية" ضرورة الحوار (السوداني - السوداني) دون مشاركة أطراف أجنبية. وفي الاثناء يقول "الحزب الشيوعي السوداني" أن وحدة قوى لثورة باتت اكثر إلحاحاً، وانهم اداروا مناقشات مع مختلف القوى الثورية، وفي اتجاه اخر تقول لجان المقاومة والقوى المدنية الموقعة على"الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب" ان احد شروط الوحدة تتمثل في وجود عناصر مدنية ثورية غير إنتهازية، تنظر للقضايا من منظور وطني غير حزبي". بين كل ذلك يتضح ان مساحات الإختلاف اكبر مما تبدو وفق الاصطفافات الراهنة، تأسيسا على تباين المواقف والتقديرات السياسية التي ادت الى خروج بعض القوى السياسية والمدنية والمهنية من تحالف (قوى الحرية والتغيير) بعد إسقاط نظام الجنرال البشير، بينما اختارت قوى سياسية اخرى تأسيس تحالف جديد باسم "قوى الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية" وهو التحالف الذي دعى ثم ايد إنقلاب 25 اكتوبر 2021، وبذا السجل الضاج بالتناقضات اصبح لكل كتلة رؤيتها للوحدة وتفسيراتها ايضا، وهي كلها تقوم على احادية الرؤية والنزوع نحو الإنفراد، وهو ما يجعل تجدد القتال ممكن مع تغيير سيطرأ في المقاتلين، خصوصا وان هناك من يرى ان مجرد الجلوس مع الفريق المدني الاخر (خيانة لخيارات الشعب السوداني).

خطاب لائق

الواقع يؤكد ان حل الازمة السودانية متصل بمعالجة جذورها المزمنة، ووقف الرب مرتبط بتجريم اطرافها. فالتعامل معهم على انهم اطراف فاعلة في الحل سيعقد المشهد اكثر، خصوصا لدى القوى المدنية المنوط بها عدم إضفاء المشروعية السياسية على اطراف الحرب/ شركاء الإنقلاب، والشروع في تأسيس مشروع وطني جامع. هذا هو الخطاب الذي يليق بالقوى المدنية والسياسية، وعبره فقط يمكن ان تتوحد، بعد التسامي عن الاحقاد والنزعات الشمولية والإنفرادية.

سيرة الألم

مع حلول الشهر العاشر لحرب السودان بينت إحصاءات متداخلة وجديدة لمكتب الامم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية (OCHA) ان عدد النازحين في السودان تجاوز الـ 7.4 مليون نازح، و17.7 مليون يواجهون الجوع، و19 مليوناً من الاطفال خارج المدارس، و97 الف حالة إشتباه بالاصابة بالكوليرا. وقالت المنسقة الاممية للشؤون الانسانية بالسودان، كليمنتاين نكويتا سلامي، أنهم بحاجة إلى (350.1) مليون دولار، للقيام بمهماتهم في السودان، منها (159.1) مليون دولار لزيادة المساعدات المنقذة لحياة المتاثرين من بالنزاع. في الوقت الذي أكدت فيه رئيسة منظمة الامم المتحدة للطفولة (UNICEF) في السودان، مانديب اوبريان، ان النزاع في السودان يعرض صحة 24 مليون طفل ومستقبل السودان والمنطقة كلها لخطر كارثة ستمتد لاجيال.

بينما حذرت "المنسقية العامة لمعسكرات النازحين - اقليم دار فور" من تدهور الوضع الانساني، واعربت عن مخاوفها من حدوث مجاعة تتسبب في موت جماعي. وشهدت "جزيرة توتي" على النيل الازرق وسط مدينة الخرطوم (100) حالة وفاة بسبب نقص الدواء منذ إندلاع الحرب. ودعت "مبادرة صون التراث السوداني" لوقف الحرب وعدم تحويل المساحات المدنية والمناطق والصروح الاثرية والمتاحف والمحميات التاريخية والطبيعية، الى ساحات للمعارك العسكرية، جاء ذلك إثر ظهور مسلحين يتبعون لمليشيا الدعم السريع في منطقة "النقعة" التي تضم مبان وصروح اثرية شيدت في العهد المروي منذ العام 250 قبل الميلاد.

وكان وزير الخارجية الامريكي انتوني بلينكن، قد صرح في الخامس من يناير الجاري ان الصراع في السودان قد اسفر عن جرائم حرب، وجرائم ضد الانسانية وتطهير عرقي، وإنعدام الامن الغذائي والرعاية الصحية، وتعرض العديد من النساء والفتيات للإغتصاب، وهن يعشن في رعب من العنف الجنسي، وسط الفوضى والإفلات من العقاب، وقال بلينكن "ان العالم كله يفكر في المعاناة المستمرة للشعب السوداني، بسبب الصراع الذي لا داعي له بين القوات المسلحة والدعم السريع".

مليشيا الفزع

يحدث كل ذلك ولم تزل هنالك تخوم حدودية لاكثر من 5 ولايات سودانية تقع تحت مرمى نيران "مليشيا الدعم السريع" رغم انها لم تصلها بعد. وجاءت تصريحات قائد المليشيا محمد حمدان دقلو، لدى لقائه بتنسيقية القوى الديمقراطية "تقدم" في اديس ابابا مقلقة اكثر، حيث أقر بوجود قوات لا تتبع للدعم السريع انضمت الى صفوفه بعد ان جاءت عن طريق الاستنفار القبائلي الذي يسمى محليا بـ (الفزع)، لافتاً الى عدم سيطرته على تلك القوات التي قد تدخل في مواجهات مع الدعم السريع نفسه في حال محاولة كبح جماحهم ومنعهم من (صيد الغنائم). وافاد ان تلك القوات وصلت الى ولاية الجزيرة دون تنسيق معه. وبالرغم من محاولة "حميدتي" للتبرؤ من ممارسات مليشياته، الا ان العذر الذي قدمه كان واهيا جدا، حيث ان (حرب توطين الديمقراطية) حسب تسميته هو لحرب 15 ابريل، لم تكن تحتاج الى فزع قبائلي وإشراك مقاتلين من اجل المغانم، في خطوة تُعد بداية لتمليش المواطنين على اساس عرقي، فتحت المجال امام ارتكاب جرائم حرب ونهب مسلح، ادى بدوره لتسلح مقابل بغرض الحماية اولا لكنه صادف هوى خاص لدى قادة الحرب من طرف الجيش.

جيش التنظيم

في المقابل بدا واضحا أن قرار وقف الحرب لم يعد في يد قاد الجيش. ليس فقط لتطورات الحرب نفسها، لمعطيات الواقع الاقليمي والدولي - المتصل بالشرق الاوسط والبحر الاحمر والقرن الافريقي واليمن - لكن العامل الاكثر تأثيراً في حرب السودان هو دور منتسبي "الحركة الاسلامية" و"حزب المؤتمر الوطني" المحلول في هذه الحرب، ووجودهم المؤثر داخل الجيش او بجانبه (كتبية البراء ابن مالك، مثال)، حيث تمثل نهاية الحرب بغير انتصارهم هزيمة اخرى لمشروعهم السلطوي والوجودي، وهوما يجعل امر قبول التفاوض السلمي لوقف الحرب عسير جدا بالنسبة لهم. ومن المؤكد انهم لن ينصاعوا لاي قرار في ذلك الإتجاه حتى لو ادى الامر الى تسليح المواطنين او الإقتتال فيما بينهم، وإنفراط عقد الجيش الذي هو في وجهة نظرهم (جيش بناه التنظيم) وهو الذي سيبقي على التنظيم او فالترق كل الدماء.

في ظل هذه المعطيات المعقدة، يبدو ان مظاهر الإنفلات وفقدان السيطرة كانت ايضا دافعا لإنطلاق مبادرات من ابناء وبنات الاقاليم التي لم تصلها الحرب بعد، لكنها مهددة بذلك، مثل ولايات شرق وشمال السودان، الذين اطلقوا مبادرات لرفض الحرب، والتعايش السلمي، ووقف خطاب الكراهية وحملات التصعيد، ونزع فتيل الفتنة العرقية. ونادوا برفض تسليح المواطنين ونقل الحرب إلى مناطقهم التي اعلنوها كمناطق اّمنة تعد اخر الملاذات للفارين من جحيم الحرب في بقية ولايات واقاليم السودان، مع المطالبة بفتح ممرات اّمنة لغوث العالقين، وإجلاء المرضى والمصابين. ويبدو ايضا ان الازمة السودانية لن تُحل قريبا بشكل سلمي، هذا الى جانب التاثيرات العسكرية المباشرة على دول الجوار، التي سيكون لها ترتيبات اخرى اكثر إنغماسا في لعبة الحرب مع كل صباح جديد.

في لقائه بالعاصمة البديلة بورتسودان مع المبعوث الخاص للامين العام للامم المتحدة رمطان العمامرة، الاحد الماضي، اكد الفريق اول عبد الفتاح البرهان، إلتزام حكومته بتحقيق التحول الديمقراطى، وإتمام فترة إنتقالية تنتهى بإنتخابات عامة، وهو امر ليس محل نقاش الان. فالاولوية لوقف الحرب، لكن اصرار اطراف الحرب على إبراز وقوفهم الى جانب التحول الديمقراطي، وهم قد عملوا على عرقلة خطواته بقمع ثم إنقلاب ثم حرب يجعل الموضوع كله غير قابل للتصديق. فالاقرب للحقيقة الان ان التحول المدني الديمقراطي في السودان سيصبح صريعا لهذه الحرب مالم تحدث معجزة ما.

معرض الصور