18/01/2024

إعادة إعمار البنية الأساسية والاقتصادية وبناء السلام

فهيل جبار جلبي
أثناء دراسة حالات المجتمعات التي مزقتها الحروب والنزاعات نجد انه لا توجد نماذج ناجحة لاعادة الاعمار، ولعل من الاسباب التي يمكن تشخيصها هي النظر الى اعادة الاعمار على انه مجرد اعادة بناء وليس حالة تكامل بين الاهداف التنموية الاقتصادية والاجتماعية، واعادة تحديد شكل العلاقة بين المجتمع والمؤسسات الوطنية والمحلية، لاسيما وان المجتمع في الأزمات تمزقه الصراعات والمشاكل التي تتفاقم في حال استمرار حالة عدم الاستقرار وتهديد الأمن الشخصي للانسان، وتعرف المساعدات التنموية الرسمية Official Development Assistance بانها المنح والقروض التي تمنح من قبل الدول أوالمنظمات المانحة الى البلدان النامية والى المؤسسات المتعددة الأطراف، بهدف تحقيق التنمية الاقتصادية والرفاه لتلك البلدان، ويشترط أن لايقل عنصر المنحة عن 25% من المساعدات، وبالاضافة الى الدعم المالي، تعتبر المعونة الفنية جزء من المساعدات التنموية الرسمية.

ترتكز اي استراتيجية لاعادة الاعمار بعد الكوارث على أربعة مباديء، تعتبر بمثابة محددات لها، وتعمل على توجيهها، وهذه المباديء هي:
1. وقائية: لا تكتفي بوضع الخطط لمعالجة آثار النزاع فقط، بل تقوم بوضع الخطط لتجنب النزاعات قدر الإمكان، من خلال اتخاذ إجراءات وقائية مسبقة.
2. شاملة: تعالج جميع الآثار الناتجة عن النزاع، على مختلف المستويات ومختلف العناصر بالتوازي، سواء كانت اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية أو سياسية.
3. تندمج ضمن خطط التطوير: فتكون هذه الاستراتيجية جزء من خطط التنمية والتطوير الحضري، حيث أن الكوارث هي شيء محتمل الحدوث في إي مكان، لذلك لابد أن يتم وضعها في الاعتبار عند أعداد أي خطط للتنمية في المستقبل.
4. الاستدامة: إذ تحقق هذه الإستراتيجية الاستدامة، وتكون قادرة على إعادة إدارة عجلة الحياة وإستمراريتها بذاتها، وتعمل على تقوية المجتمعات في مواجهة النزاعات.
5. مرنة: قابلة للتعديل والتكيف السريع مع المستجدات والمتغيرات على أرض الواقع.

تشمل عملية اعادة الاعمار في هذه الفترة تطبيق وتنفيذ مشاريع إعادة الأعمار (بناء المساكن وإصلاح البيئة الفيزيائية)، ويتم في هذه المرحلة عملية المتابعة والتقييم لمجمل مشاريع إعادة الأعمار، واستخلاص الدروس والعبر، ويتم فيها جمع المعلومات وتعديل الإستراتيجيات وإعداد الخطط الجديدة بناءً عليها، وبهذا تتداخل مرحلة الاعمار مع مرحلة الإعداد المسبق للكارثة في المستقبل، وتتطلب هذه الفترة مدة طويلة لأنها تعني بشكل أساسي إعادة عجلة الحياة الطبيعية للدوران في منطقة الكارثة، وتشمل هذه المرحلة عملية إعادة الاعمار على المدى القصير والمدى الطويل، ويتم تقييم احتياجات الناس الأساسية لتحديد مستوى ونوع المساعدات التي يحتاجها السكان المتأثرون بالنزاع، وتوفير هذه الاحتياجات الإنسانية، وتشمل هذه الاحتياجات الاساسية للناس (الحاجة للسكن، مقومات الحياة كالطعام والشراب، والحاجة للخدمات الأساسية الماء والكهرباء، الخدمات التعليمية والمدارس، كما يتم تقييم الاضرار والدمار وجمع كل المعلومات لمعرفة الواقع وتعديل مخططات إعادة الاعمار بناء على هذه المعلومات، يقوم الخبراء في كل مجال من:( المجالات بعمليات التقييم والمسوحات، ومن هذه المعلومات كالاضرار في المنازل والمباني، والاضرار في مقومات الحياة (المصانع، المحلات، التجار الصغار، والوحدات الصناعية)، والاضرار في القطاع الزراعي سواء النباتي والحيواني (المحاصيل، الأشجار المثمرة، وفي قطاع الخدمات (التعليمية، الصحة، الخدمات الترفيهية والخدمات العامة)، إضافة إلى الأضرار في المباني الحكومية. اضافة الى الاضرار في البنية التحتية (الشوارع، شبكة المياه، شبكة الكهرباء، شبكة الصرف الصحي، شبكة الاتصالات، الجسور). وإعادة الإصلاح قد تكون ذاتية يقوم بها السكان، او تقود هذه البرامج المؤسسات الحكومية أو البلديات أو المؤسسات غير الرسمية، وتقوم هذه المؤسسات بتنظيم الاعمال وتمويلها وادارتها والاشراف عليها بشكل مباشر، وفي بعض الحالات بدعم دولي.

لا يمكن فصل التقدم المحرز بشأن أولويات بناء السلام المحددة عن بناء القدرات بمفهومه الأوسع وعلى جميع الأصعدة. وكنتيجة للحرب، تتوافر للمؤسسات الحكومية وغيرها من الجهات المعنية الوطنية قدرات محدودة لتقديم الخدمات وتنفيذ الإصلاحات وضمان إدارة اقتصادية ومالية كافية، حيث لا تزال مؤسسات الدولة في العديد من الحالات ضعيفة أو غير موجودة، غير أن هناك حاجة إلى المزيد من التقدم، ولا سيما في مجال إصلاح الخدمة المدنية. كما أن هناك حاجة إلى وضع استراتيجية شاملة ومستدامة لإصلاح الخدمة المدنية لضمان فرص التوظيف المبنية على الأهلية والأداء القوي والمساءلة و لمعالجة الثغرات الملحة في القدرات، بما فيها انخفاض نسبة النساء في الخدمة المدنية. وهناك أيضًا حاجة إلى إجراء استعراض شامل لقدرات الوزارات والإدارات والوكالات لتحديد ومعالجة التحديات على المديين القصير والمتوسط والثغرات في القدرات( ). وجدير بالذكر ان الوضع الاقتصادي له اثره على الاستقرار وارساء السلام في اي دولة وبوجه خاص الدول النامية، لان الاستقرار يشجع على زيادة الاستثمار، ويساعد على توجيه موارد الدولة الى التنمية واقامة المشروعات الخدمية التي ترفع من مستوى الشعوب، بعيدا عن استنزافها في المجالات العسكرية، مما يؤدي الى حل المشاكل الاجتماعية المرتبطة بالمشاكل الاقتصادية مثل مشكلة البطالة والتضخم الاقتصادي، لذا نجد الدول المتقدمة تتمتع بالاستقرار السياسي، في حين ان التطور الاقتصادي في الدول النامية يسري بخطى متردية، نظرا لان القائمين على تنفيذ هذه السياسات ليس لديهم الكفاءة اللازمة، وهذا ما تؤكده الاوضاع في الكثير من الدول الافريقية، فعلى سبيل المثال تعاني جزر القمر من ارتفاع حجم المديونية وتستورد اكثر من نصف احتياجاتها الغذائية، واكثر من 90% من احتياجاتها في المجالات الاخرى، ونسبة البطالة فيها 40% من اجمالي الخريجين، كما وصلت نسبة التضخم فيها الى 25%، وتدهورت قيمة العملة الوطنية فيها وحدث انهيار شبه كامل للبنية الاساسية، وارتفعت نسبة الامية الى 85%، بالاضافة الى ذلك فان هذه الدول تنتشر فيها الرشوة والمحسوبية والاختلاس والفقر، ويترتب على ذلك انهيار الوضع الاقتصادي للدولة.

تجري عملية بناء السلام على الأصعدة كافة في الموطن في الجماعة، على المستويين الوطني والدولي. ومنها على سبيل المثال، توزيع الثروات الأقتصادية على كافة مكونات الدولة، وبناء المعامل والمنشاءات ودعم الاستثمارات من قبل الحكومة، وبناء الثقة كمحاولات تضمن التعاون والسلام في الصفقات الوطنية والدولية. كذلك هي الحال مع المبادرات في داخل البلاد التي ترمي إلى تقليص الفجوات بين الغني والفقير، وبناء عمليات التنمية المستدامة.

على سبيل المثال، بعد التحول الذي حصل في عام 2003 خضع العراق لضغوطات من المجتمع الدولي لاجراء مجموعة من الأصلاحات تمثلت بدخول العراق في سلسلة من الأتفاقيات مع صندوق النقد الدولي. بدأت بأتفاقية المساعدات الطارئة لما بعد الأزمة عام 2004، والتي مهدت الشروط اللازمة لأتفاقية الترتيبات المساندة SBA عام 2005 تليها المرحلة الثانية للدخول في اتفاقية لدعم البرنامج الأقتصادي العراقي انتهت في مارس 2009. وبموجب الأتفاقيات الأنفة الذكر فأن حجم الدين الخارجي للعراق قد انخفض بنسبة 53%. ان الغرض من الأتفاقيات هو أن يبدأ العراق بسلسلة من الأصلاحات الهيكلية، يمكن فيها احتواء نسب التضخم العالية، وزيادة قيمة الدينار العراقي والتي هي من اهم ملامحها الأساسية، في حين اهلمت عناصر مهمة اخرى وهي نسب البطالة العالية. ويمكن القول ان الأصلاحات تلك كانت ناقصة ولم تأخذ بنظر الأعتبار الظروف المرحلية وضرورة مكافحة البطالة وتوفير فرص العمل عن طريق مشاريع ذات عمالة كثيفة، والتي يمكن ان تفضي بدورها لوضع حلول للمشكلة الأمنية. هذا بالأضافة الى السياسات النقدية المتشددة والتي ادت الى عزوف القطاع الخاص العراقي عن الأقتراض والشروع في الأسهام في مشاريع الأعمار.

واعرب مجلس الشيوخ الامريكي وعلى لسان ناطقه عن قلقه ازاء تكاليف الحرب وما يليها من اعادة اعمار العراق بحيث طلب من موظفيه البحث فيما اذا كان يمكن استغلال البترول العراقي لتمويل التزامات مثل الغذاء والدواء وذلك بموجب اتفاقية لاهاي لسنة 1917، واتفاقية جنيف التي تحدد التزامات وحقوق القوة المحتلة لاستخدام الممتلكات التي كان يملكها العراق لتمويل واعادة بناء البلاد.

وعليه فان السلام لن يتحقق الا باتخاذ هذه الاجراءات جميعا بعد انتهاء النزاع، وان ارساء سلام دائم بحيث لا ينشب النزاع مرة اخرى يقتضي معالجة اسباب تلك النزاعات، وهذا لن يتم الا باتخاذ هذه الخطوات والاجراءات، وتبين لنا كيف ان الدول التي مزقتها الحروب وكذلك الوكالات والمنظمات الدولية كيف تسعى جاهدة لاتخاذ هذه الاجراءات بغية احلال السلام نتيجة‌ فعالية هذه الاجراءات وضرورتها، حيث ان عدم اتخاذها لن يؤدي الى استتباب الامن وبالتالي عدم تحقيق السلام داخل المجتمع.

معرض الصور