14/02/2024

العدالة والمصالحة التقليديتان بعد الصراعات العنيفة: التعلم من التجارب الأفريقية 3 - 5

لوك هويسه

3. خمس تجارب أفريقية
لقد كتبت الكثير من الأدبيات حول العدالة التقليدية بشكل عام، وخصوصاً كما كانت تعمل في الفترات ما قبل الاستعمارية والاستعمارية. ولقد كان المنهج ولا يزال أنثروبولوجياً أو يركز على ظاهرة التعددية القانونية، أي تعايش أشكال من التقاضي في إطار الدولة وخارج إطار الدولة. كما انصب قدر من الاهتمام على طقوس المصالحة. إلا أن خصوصية مشروع المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، تكمن في تحليله للدور الذي تلعبه مّثّل تلك الآليات أو قد تلعبه في التعامل مع تركة الانتهاكات واسعة الانتشار لحقوق الإنسان .

1.3. طموحات العدالة بعد العملية الانتقالية
لقد تمت الإشارة أعلاه الى تعقيد الأجندة السياسية بعد انتهاء حرب أهلية أو انتهاء نظام حكم قمعي. يعد التعامل مع مصير الضحايا والمرتكبين إحدى المهام الجسيمة التي يتوجب على النخب والمجتمع المدني التصدي لها في هذه الحالة. يمكن اللجوء الى سن تشريعات تقضي بالعفو العام، أو ملاحقة المرتكبين قضائياً، أو تأسيس لجنة حقيقة، أو السعي الى المصالحة من خلال الطقوس المحلية، أو بناء النصب التذكارية أو تطوير مزيج من هذه الإجراءات جميعها. لقد صاغ الأكاديميون والعاملون في هذا المجال مصطلح ‹العدالة الانتقالية› لتغطية مختلف السياسات التي تصمم للتعامل مع ماض عنيف. يتناول هذا القسم من الدراسة مدى وقوع التقنيات التقليدية في تسوية النزاعات ضمن نطاق تلك الفكرة الرئيسية.

ما الذي ينبغي أن يأتي أولا بعد الصراع العنيف:

العدالة أو استعادة السلم الًاجتماعي؟

كي نتمكن من إجراء مثل هذا التمرين، فإننا بحاجة أولاً لوصف أهداف العدالة بعد المرحلة الانتقالية.

1.1.3. الأهداف العامة
تعد دراسة الكيفية التي تعالج بها مجتمعات ما بعد الصراع تركة انتهاكات حقوق الإنسان جديدة نسبياً. ونتيجة لذلك، فإن وجهات النظر بشأنها لا تزال متباينة. إلا أن ثمة إجماعاً حصيفاً بدأ بالظهور تدريجياً فيما يتعلق بأهداف الحد الأدنى لسياسات العدالة الانتقالية.

ثمة هدفان عامان على مستوى الأفراد والمجتمعات المحلية. يتمثل الهدف الأول في بلسمة جراح الضحايا والناجين من الصراع. أما الهدف الثاني فيعالج ترميم المجتمع، بمعنى استعادة العلاقات المنقطعة بين أفراد مجموعة معينة أو بين مجتمعات محلية. يعمل الهدف الثاني على مستوى المجتمع أو على مستوى البلد بأسره. والغاية الرئيسية هنا هي منع تكرار الصراع العنيف، ليس أقله من خلال تعزيز قوة المؤسسات و/أو إنشاء مؤسسات وعمليات مصممة لهذا الغرض.

تتمثل الأهداف العامة للعدالة بعد المرحلة الانتقالية في بلسمة جراح الضحايا والناجين، وترميم النسيج الاجتماعي ومنع حدوث الصراعات العنيفة مرة أخرى.

هل لهذه الطموحات العامة مكان في التقنيات التقليدية التي يركز عليها هذا الكتاب؟ والجواب، هو أنها موجودة في معظم الحالات. يعتقد فيكتور أغريجا وبياتريس دياس-لامبرانكا أن معالجة الصراعات المرتبطة بالحروب وتجنب تجدد العدوان، تقع في صميم الممارسات المحلية في موزمبيق (الفصل الثالث): "باستخدام الموارد الأصلية المتاحة والمتوافرة محلياً، تمكن الناجون من الحرب من الشروع في المهمة العظمى المتمثلة في ترميم حياتهم الفردية والجماعية"، وفي أمكنة أخرى في دراسة الحالة هذه، "فيالفضاءات الاجتماعية التي تم إنشاؤها بهذه الطريقة، تتم إعادة تمثيل عنف الماضي حيث يمكن التحدث عن الضغائن، والمرارة والمظالم في قلوب الناجين دون المخاطرة بإطلاق حلقات جديدة من العنف والانتهاكات". طبقاً للباحث جو آلي، في الفصل المخصص لسيراليون: ‹الموارد المجتمعية، مثل آليات المساءلة الأصلية، مفيدة جداً في بناء السلام ،خصوصاً بعد صراع عنيف. يمكنها تيسير عمليات إعادة الإنتاج والمعالجة، حيث يمكن لأفراد المجتمع المحلي أن يتعاملوا معها بسهولة ويسر›. وفي كتابته عن المصادر الغنية للممارسات التقليدية لشعب الآشولي في شمال أوغندا (الفصل الرابع)، يظهر جيمس لاتيغو كيف أنها يمكن أن تؤدي الى إعادة بناء علاقات الثقة، واستعادة التماسك الاجتماعي، ومنع ارتكاب جرائم مروعة جديدة.

ثمة قناعة متنامية في الدوائر السياسية والأكاديمية، بأن الأهداف العامة (مداواة الضحايا، وترميم النسيج الاجتماعي وحماية السلم) يمكن محاولة تحقيقها على أفضل نحو، من خلال البحث عن المصالحة والمساءلة وقول الحقيقة والتعويض عن الأضرار التي لحقت بالضحايا. يمكن تسمية هذه بـ ‹الأهداف الأداتية الأربعة›، التي ينبغي لجميع سياسات العدالة الانتقالية أن تشملها. كما يعتبرها تقريرنا، الأبعاد المحورية للأشكال القائمة على التقاليد لتسوية الصراعات بعد الحرب الأهلية والإبادة الجماعية.

2.1.3. أربعة أهداف باعتبارها أدوات
تتمثل الأهداف الأربعة باعتبارها كأدوات ينبغي أن تكون موجودة في جميع سياسات العدالة الانتقالية في المصالحة، المساءلة، الحقيقة، والتعويض. ستستخدم أفكار المصالحة، والمساءلة، والحقيقة والتعويض التي تتم مناقشتها أدناه، بوصفها البوابات الرئيسية لإجراء مراجعة مقارنة للتقنيات القائمة على التقاليد في البلدان التي يغطيها هذا المشروع.

المصالحة

‹يتمثل الهدف الأعلى لأنظمة العدالة التقليدية لدى الكبا مندي (وفي الواقع لدى معظم المجتمعات الأفريقية) في المصالحة›. يشكل هذا أحد الاستنتاجات التي يخلص إليها الباحث جو آلي في دراسة حالة سيراليون. تركز أنشطة المصالحة المحلية، في كثير من الأحيان، على عودة المقاتلين السابقين. قام الكيورانديروز، أو المعالجون التقليديون في موزمبيق بطقوس إعادة إدماج الجنود السابقين. مثال آخر هو مويو كوم طقس ‹تطهير الجسد› في شمال أوغندا. خلال اجتماع كان يعقد للحكماء، كان الرجال والنساء الذين يعودون من الأسر يخضعون لعملية غسل لذنوبهم، ويمكن أن يعودوا للعيش معاً بانسجام مرة أخرى. تمكنت كاريتاس ماكيني، وهي منظمة غير حكومية تعمل في سيراليون، بنجاح من ‹إعادة جمع المقاتلين الأطفال السابقين مع أسرهم. وسعت الأسر «لتغيير قلوب» أبنائها من خلال مزيج من الرعاية ،والدعم والممارسات الطقسية. كان العضو الأكبر في الأسرة يقوم عادة بتلاوة الصلوات على كأس من الماء ويفرك به جسد الطفل (وخصوصاً الرأس والأقدام والصدر)، طالباً من الله والأسلاف أن يمنحوا الطفل «قلباً بارداً»، وحالة من المصالحة والاستقرار يقيم فيها الطفل في المنزل، ويكون له علاقة طبيعية مع أسرته ومجتمعه.

يحتوي قانون لجنة الحقيقة والمصالحة في ليبيريا الصادر في يونيو 2005 أحكاماً لاستخدام الآليات التقليدية في إدارة الصراع. وفي سيراليون أيضاً، تمكن مفوضو لجنة الحقيقة والمصالحة من ‹الحصول على المساعدة من الزعماء التقليديين والدينيين لتيسير جلساتها العامة وفي تسوية الصراعات المحلية الناجمة عن الانتهاكات السابقة أو لدعم عملية المعالجة والمصالحة › طبقاً لتيِم كيلسول، المحاضر في السياسات الأفريقية الذي راقب جلسات استماع هذه اللجنة. من الواضح أن إضافة مراسم طقوس المصالحة التي تدار بعناية، الى المجريات كان أمراً مهماً جداً. ويكتب أن الطقوس ‹ولدت مناخاً عاطفياً نجح في التأثير في العديد من المشاركين والمشاهدين، بما في ذلك كاتب هذه الكلمات، وهو ما أفسح المجال للمصالحة والسلام الدائم› مراسم ماتو أوبوت في شمال أوغندا تهدف الى مصالحة الضحايا والمرتكبين. في موزمبيق، تخلق أرواح ماغامبا سياقاً اجتماعياً ـ ثقافياً يسمح للأفراد والمجتمعات بالامتناع عن العنف وإعادة بناء العلاقات المنقطعة. في عام 1993، وبعد فترة من العنف المروع في ‹الحرب الأهلية غير المعلنة› في بوروندي، حاول أفراد أوبوشينغانتاهي ـ وهي مؤسسة محلية لتسوية النزاعات ـ تطوير عمليات للمصالحة. ونجحوا في عدة مجتمعات محلية، لكنهم أخفقوا في معظم المجتمعات الأخرى. كانت المصالحة، التي ينظر إليها بشكل رئيسي على أنها وسيلة لتحقيق الوحدة الوطنية، واحدة من الأهداف المعلنة عندما أصبحت محاكم الغاتشاتشا في رواندا جزءاً من سياسة أوسع للعدالة الانتقالية. إلاّ أن تجربتها الفعلية تثير شكوكاً جدية حول ما إذا كان يمكن وصف نتائجها بالناجحة.

المساءلة
يكتب جيمس لاتيغو في الفصل الرابع أن ممارسة ماتو أوبوت ‹تستند الى قبول المرء الكامل للمسؤولية عن الجريمة التي ارتكبت أو عن انتهاك أحد المحظورات. ومن حيث ممارستها، فإن الخلاص ممكن، لكن فقط من خلال هذا الاعتراف الطوعي بالذنب، وقبول المسؤولية›. وتطبق مبادئ مماثلة في طقوس المصالحة التي يتم أداؤها في المناطق المجاورة لأوغندا. في موزمبيق، كما تظهر دراسة الحالة، يشكل الاعتراف بالذنب من قبل المذنب عنصراً جوهرياً في مشاهد روح الغامبا. تم توجيه طقوس المصالحة في لجنة الحقيقة والمصالحة في سيراليون بشكل واضح نحو اعتراف المذنبين بالخطأ. الباشنغانتاهي في بوروندي لا تعالج اليوم تركة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إلا أن مكوِّن المساءلة فيها بارز جداً في الجلسات العرفية لتسوية النزاعات. كانت آلية الغاتشاتشا في رواندا بالأصل تنزع الى تحميل المسؤولية للمذنب، رغم أن استعادة الانسجام الاجتماعي كان هدفها الأول. أما الغاتشاتشا الفعلية فهي تميل بقوة نحو القصاص.
إن الميل نحو المصالحة، وحتى الصفح، لا يستبعد البحث للتوصل الى الاعتراف بالذنب ،والمسؤولية والتعويض .

لقد أصبح المدى الذي تتطلب فيه هذه الطقوس المساءلة الكاملة، عنصراً أساسياً في النقاشات حول واجب القانون الدولي في الملاحقة القضائية. وتقول الحجة هنا، بأن الميل نحو المصالحة وحتى الصفح لا يستبعد البحث عن الإقرار والمسؤولية والتعويض. يشكل هذا، في المرحلة الراهنة، عنصراً محورياً في النقاش حول دور المحكمة الجنائية الدولية في شمال أوغندا. كما تم استحضار نفس الحجة في اتفاقية جوبا في يونيو 2007 بين الحكومة الأوغندية وقادة جيش الرب للمقاومة.

قول الحقيقة
يشكل قول الحقيقة جزءاً محورياً في الممارسات المحلية لتسوية النزاع في العديد من البلدان الأفريقية. ومن الواضح أن هذا هو الحال في مجتمع الميندي في سيراليون، كما يوضح الفصل الخامس. يظهر وصف جيمس لاتيغو للأنظمة التقليدية للعدالة في شمال أوغندا كيف أن أحد أهدافها يتمثل في تأسيس رؤية مشتركة للتاريخ الجماعي للعنف. يلاحظ لارس ولدورف، الذي كان يدير المكتب الميداني لهيومن رايتس ووتش في كيغالي بين عامي 2002 و2004، أنه عندما نوقشت فكرة إدماج الغاتشاتشا في محاكمات الإبادة الجماعية في البداية، اقترح الباحثون المحليون استخدام المؤسسة بوصفها نسخة رواندا من لجنة الحقيقة ،لأن نسختها الأصلية تشتمل على قدرات تمكنها من تطوير مثل هذا الدور. إن السعي لمعرفة الحقيقة من خلال السرد العام الطقسي مهم جداً في حالة موزمبيق. بعد نهاية الحرب الأهلية كان الرد السياسي يتمثل في دفن الماضي وفرض الصمت الكامل. لقد منعت ثقافة الإنكار هذه الضحايا من استحضار معاناتهم واستعادة كرامتهم. أما طقوس روح الغامبا فتتيح الفرص للضحايا والمرتكبين ،على حد سواء، للانخراط في الماضي. في بوروندي، يتوقع من أفراد أوبوشينغانتاهي تطوير الظروف التي من شأنها أن تؤدي الى معرفة الوقائع الحقيقية في نزاع ما. لكن، وبينما يمكن لقول الحقيقة أن يكون جزءاً محورياً في العديد من الآليات التقليدية، فإن الشكل الفعلي الذي تتخذه ليس بالضرورة النموذج العام / الاعترافي ‹الغربي› الذي استخدم من قبل لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا.

التعويض وإصلاح الضرر
يشير جميع مؤلفي دراسات الحالات في هذا الكتاب، الى أن الآليات التقليدية في بلدانهم تتطلب التعويض على الضحايا وإصلاح الضرر الذي لحق بهم. لكن ليس من الواضح ما إذا كان هذا التعويض قد تجسد بشكل كاف في سياق التعامل مع أحداث العنف الجماعي. ويؤكد معالجو الماغامبا في موزمبيق أنه من أجل تقديم معالجة ناجحة لتركة الحرب الأهلية، على المذنبين أن يصلحوا الضرر الذي أحدثوه. في رواندا ،ينص تشريع الغاتشاتشا على نوعين من التعويض. تم إحداث صندوق للتعويض على الأفراد أو أسرهم أو عشيرتهم، لكن ذلك لم يتم تفعيله. الشكل الآخر ذو طبيعة جماعية، حيث ينص على العمل لصالح المجتمع المحلي. هذا الإجراء أيضاً واجه مشاكل عند التطبيق.

المصدر: IDEA

معرض الصور