من توتي بداية الحرب
د. فاطمة العاقب
تجولت عيناي في أرجاء البيت. نظرت إليه نظرة المستهام المولّه. فلا شيء يعادل في الدنيا نعمة الأمن والاستقرار. نظرت بحزن فلا نلبث أن نستقر حينا من الدهر حتى نلبي نداء الرحيل. يحزنني أن نكون في هذا الوضع الذي يجعلني أكاد افقد توازني لولا تلك القلوب الصغيرة التي تراني أمرأة من زمن المستحيلات، وهي تثق في قراراتي وتنظر اليّ بثبات. لا يمكنني أن أكون بخلاف ذلك الثبات والقوة التي عهدوها. نظرت هنا وهناك. قد تكون هذه النظرة الأخيرة لهذا السكن والملاذ الآمن الذي نكون فيه مسرورين وآمنين. جنتنا على درة النيل، وقد تكتب لنا السلامة والأمان فنكون كما نود.
جرت في ذهني صور شتى لمجتمعات كنا نراها بعيدة، فصرنا فيما كانوا فيه يقتتلون.
لقد اسمعت لو ناديت حيا، لكنهم فضلوا مصالح ذاتية قادتنا لما نحن فيه. يبدو أن على المجتمع دوما دفع ضريبة الساسة والقادة.
أتمنى أن تنتهي الحرب، وكما قال الشاعر، ليت الحرب جاءت دون راءِ، ونعود الى ديارنا سالمين آمنين متفائلين بأن القادم أجمل، فنحن شعب جميل نستحق ان تنتظم امورنا ونمضي. ما أعظم الأمن والسلام، وما أعظم رسولنا حين ذكرنا بأن من بات آمنا في سربه معافا في بدنه.
اليوم قررنا الرحيل
لشخص مثلي، ولوف منظم، في بيته يعرف أين تكون الأشياء المطلوبة بدقة، ويرتب لشهره بتفاصيل مملة، ويمضي في معبده هذا بتنسيق دقيق.
يعز علي جدا أن أفارقه،
لكن مهلا يا
فهناك من فقد أمه وأبيه وصاحبته وبنيه
فلم وعلام التباكي على دار لن نسكنها إلى الأبد؟
أطمأن قلبي وصرت أكثر يقينا وشجاعة واستعدادا للمغادرة.
وأكثر ثباتا لكل المتوقع.
وأكثر ظعاءا وتوسلا لله بأن يحفظنا بما يحفظ به عباده الصالحين.
فأستودع الله أبنائي، ونفسي ،وأهلي، وسائر أحبتي، والسودان، وجميع أهله لله، وهو لا تضيع ودائعه.
أحلام وأماني مؤجلة.
كنت أتمنى أن نكون ضمن الفواعل لرفعة هذا الوطن، وتنميته وتطوره، أن ارى قلوبي الصغيرة تتقدم بثبات. أن نفعل ونفعل. لكننا نستودعها الله وبإذنه نعود ونغني وتزهر الأيام مجددا.
ما أصعب الرحيل وما أمرّ من أن تكون بعيدا عن أهلك. فهؤلاء هم سندي حفظهم الله ورعاهم في دياره سالمين.
امي ويا لفؤادها من جنة كم ذا نعمت بها، وكم ذا أنعم لها الصحة والعافية يا رب.
الآن أكتب.
وسمفونية بيتهوفن تعزف.
فقد بتنا نعرف صوت الدانات.
والطائرات
والقاذفات
والكلاشات.
وبتنا أكثر دراية بذلك الصوت الكاسح،
أن بعده انفجار مدوي.
جلست مع قلوبي الصغيرة،
نشاهد مقاطع لعمليات النهب والسلب،
ورأيت في استهجانهم،
ما أدهشني.
نناقش السياسة.
اخبرتهم قبل عامين أننا،
سنشهد حربا في السودان.
ليس هناك مفاجأة لديهم،
بل استعداد كامل.
يؤسفني جدا وللغاية، أنني لم اتمكن من إكمال اجراءات رسمية.
وفي هذه الضوضاء كلها،
هناك يقين مطلق بالله،
بأننا سنمضي لخير كبير،
فهذا وعده،
ووعده حق.
جزيرة توتي
٢٣ أبريل ٢٠٢٣م
حفظ الله السودان