29/05/2025

الوعود الجوفاء: ماذا تبقّى من ``سلة غذاء العالم``؟

غازي جابر

منذ نعومة أظافرنا، لم نكن نعرف عن الدنيا إلا لهونا الطفولي، نركض في الأزقة بعد المدرسة، نلعب بكرة من القماش (كرة الشراب)، ونغني فرحين. وبين ضجيج الطفولة، كان صوت نشرة الأخبار في الراديو يدوي في الخلفية، يحمل عبارة ظلت محفورة في ذاكرتنا: "السودان سلة غذاء العالم." كنا نرددها بفخر، نظن أن بلادنا تقف على أعتاب مجدٍ قادم، وأنها ستصبح يومًا ما في مصاف الدول الكبرى. كانت المسيرات تخرج تهتف لكل من يعتلي الحكم، سواء أتى عبر صندوق الانتخاب أو على ظهر دبابة، لكن الحقيقة التي لم تُقال بوضوح هي أن تلك العبارة، رغم بريقها، لم تكن سوى شعار فارغ يصلح لخطاب انتخابي، لا لواقع معاش.

قالوا إن السودان سلة غذاء العالم، لأنه يملك كنوزًا: أراضٍ زراعية شاسعة من أخصب الأراضي، وثروة حيوانية تفوق 100 مليون رأس، ومياه النيل التي تجري في شرايينه، وبترول وذهب وموارد لا تنتهي. لكن بين هذا القول وبين واقعنا، فجوة لا تُردم.

منذ ثمانينيات القرن الماضي، لم يعرف السودان استقرارًا اقتصاديًا حقيقيًا، باستثناء لحظات عابرة أعقبت تغييرات سياسية. وحتى تلك اللحظات كانت مجرد مسكنات، لا تعالج أصل المرض. كل نظام جديد كان يبدأ بترميم ما خربه من سبقوه، ثم يسقط في ذات الفخ: لا خطط اقتصادية حقيقية، ولا رؤى واضحة، فقط إدارة يومية للأزمات.

ثم جاء سقوط نظام البشير، ليكشف حجم الخراب الاقتصادي المتراكم. ذهبت عبارة "سلة غذاء العالم" أدراج الرياح، وتحولت إلى شعار أجوف لا يجد صدى في أرض الواقع. تحت حكم الجبهة الإسلامية، تحولت الموارد من أداة للنهوض إلى وسيلة للتربح والنهب. مشروع الجزيرة، الذي كان يوصف بأنه قلب الزراعة في السودان، مثال صارخ. بمساحته الشاسعة التي تتجاوز 2.2 مليون فدان، كان حلمًا كبيرًا، لكنه تآكل بفعل الخصخصة وسوء الإدارة والإهمال، حتى صار المزارع عاجزًا عن ري أرضه، رغم دفعه رسومًا باهظة لصيانة ترع لم تُنظف منذ سنوات.

اليوم، السودان يقف على حافة انهيار اقتصادي شامل: الجنيه السوداني فقد قيمته بالكامل، منهار أمام الدولار بنسبة تجاوزت 125% وفق تقرير البنك الدولي لعام 2024. معدل التضخم بلغ 230% في 2023، ومن المتوقع أن يصل إلى 180% هذا العام. الجنيه بات بلا قيمة، والأسعار تقفز كل يوم بلا سقف: كيلو السكر وصل إلى 3000 جنيه، رطل زيت الفول 5000 جنيه، وجوال عيش ود أحمد تجاوز 85 ألف جنيه!

كيف لدولة بها أكثر من ستة مصانع سكر عاملة، أن يصل فيها سعر السكر إلى هذا الحد؟ كيف يُعقل أن تعجز الحكومة عن توفير أبسط المواد الغذائية، بينما تقاريرها تقول إن 98% من الإنفاق الحكومي يذهب للمؤسسة العسكرية، بينما المدارس متهالكة، والمستشفيات مشلولة، والطرق محفرة، والمزارع عطشى تنتظر رحمة السماء؟

والأدهى أن المواطن ظل ينتظر من كل نظام جديد أن ينقذه، لكنه في كل مرة يكتشف أن التغيير كان في الأسماء لا في السياسات. تُغير الوجوه، ويبقى الفشل ثابتًا. لا خطة اقتصادية تُذكر، لا رؤية، لا اشتراكية ولا رأسمالية، بل مجرد قرارات عشوائية ومسكنات لا توقف الألم.

بحسب تقرير البنك الدولي، أكثر من 17.7 مليون سوداني يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، و4.9 مليون شخص على شفا المجاعة. أكثر من 8.6 مليون نازح داخليًا بسبب الحرب، ما يجعل السودان أكبر أزمة نزوح في العالم اليوم.

وفي قلب كل هذا الخراب، مشروع الجزيرة يحتضر: المياه مقطوعة، ووزارة المالية ترفض دعم الشركات المنفذة للصيانة. المزارعون دفعوا ما عليهم، لكن الدولة أغلقت أبوابها في وجوههم. إذا لم يتم إنقاذ الوضع فورًا، فلن يكون هناك مشروع جزيرة يُنقذ لاحقًا، بل قد لا يبقى ما يُنقذ أصلًا.

معرض الصور