29/06/2025

حرب الإعلام وإعلام الحرب في السودان

خالد ماسا
كتبت الصحفية والإعلامية التونسية ورئيس التحرير الأول في صحيفة الصباح التونسية الأستاذة آسيا العتروس في وقت من الأوقات مانعتبره مرجعاً في قراءة تأثير الاعلام وتأثره بالتغيرات التي تطرأ على المجتمعات. واختارت " الثورة" لتسمي سِفرها المكتوب تحت عنوان " ثورة الاعلام وإعلام الثورة " لتوضح في ذلك تأثير وتأثُر الاعلام بالبيئة المحيطة به. عطفاً على ذلك يمكننا قراءة المشهد السوداني من باب تأثيرات "الحرب" على الأداء الإعلامي وتأثيراته على مسارات الحرب في السودان.

الحرب هي الطاريء الأكثر تأثيراً على السودان بمكوناته المختلفه، ولم تكُن الحالة الإعلامية في كامِل صحتها قبلها. فما أن تنفست صُعداء الثورة وبدايات المرحلة الإنتقالية حتى جاءت قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر لتعيد الحالة الإعلامية للوضح الحرج في صحتها العامة.

حالة الحرب وتعليق القوانين بأوامر الطواريء هي الوصفة الأمثل للانتهاكات التي تطال العمل الإعلامي في أفراده ومؤسساته. فكانت الكُلفة الأولى لحرب أبريل هي التوقف التام للمؤسسات الإعلامية ودور النشر. وصار المشتغلين بالمهنة ضمن لائحة المتهمين، كل حسب الجغرافيا التي رسمتها الحرب بمساحات عدمية لحرية الرأي والتعبير. وما لم يكن تصويب الأقلام والمنصات الإعلامية بذات إتجاه البندقية، فإن ذلك كان كافياً لإصدار أحكام الإعدام والتخوين والاعتقال بحق الصحفيين الذين لم يكن أمامهم غير خيارات النزوح لأماكن تقل فيها نسبة الخطورة على حياتهم أو اللجوء والخروج من دائرة الحرب تماماً. وهو ما أثبتته البيانات الصادرة عن "نقابة الصحفيين السودانيين" ومنظمة "مراسلون بلا حدود".

لم يكن مطلوباً من الإعلام أوان الحرب مراوغة الحقيقة بزيف الحياد لأن الحرب هي أكثر الحالات التي تتطلب موقفاً أخلاقيا بعيداً من حالة "الإبتزاز" التي فرضتها الحرب على الحالة الإعلامية. وصار السباق ناحية شراء الرأي العام أو التأثير عليه مبرراً لإصدار الأحكام والطعن في المواقف الوطنية لأغراض الكسب العسكري في الميدان.

في حرب السودان، التي تمضي باتجاه عامها الثالث، تعرضت "الحقيقة" التي كان من المفترض أن تُعرض على شاشات الصحافة والإعلام لإطلاق الرصاص الحي بسبب الاصطفاف وحالة الاستقطاب التي عمدت لتقسيم المشهد العام الى حصتين بينهما الدم. وبالتالي لم يكن من السهل على الصحفيين أن ينشروا في الشعب السوداني خطاب الوعي والتنوير الذي يقابل خطاب الكراهية المتطرف واسع الانتشار والسيطرة.

حرب الإعلام التي إشتعلت لم يتردد أصحاب المصلحة فيها في جعل المنصات الإعلامية مخزن سلاح يضرب بلا هوادة، ولا وازع يراعي حُرمة المدنيين الذين من حقهم أن يتلقوا محتوى صحفي يتحدث عن الانتهاكات التي تطالهم، ويكشف عن الوجه القبيح لجرائم الحرب كشيء مجرد وبعيد عن التطفيف الإعلامي الذي إنغمس في اجترار مرارات ما قبل الحرب وتصفية الحساب السياسي القديم. ولم تتجرأ البندقية والمدافع والطائرات على الدم السوداني لولا وجود ظهير إعلامي يزف البُشرى للقراء والمشاهدين كلما وقع إنتهاك وإرتفع عدد الضحايا المدنيين.

سَفاحاً وُلِد مصطلح الحواضن الاجتماعية في المنصات من نسل حمالة الخطب ليصبح هو بمثابة إحداثيات مضبوطة لضرب الأبرياء، والإضرار بكل ما يضيق على المواطنين العُزّل حياتهم ومعاشهم في خدمات المياه والكهرباء والمطارات ومستودعات الوقود والمستشفيات والأعيان المدنية الخاصة.

غياب الرقيب المهني والأخلاقي أطلق يد الأقلام ولسان الإعلام للإصطياد في مياه الحرب الآسنة. فبدلاً من أن تكون هي السلطة الرابعة التي تتصدى للانتهاكات ضد المدنيين، صارت تقود حملات التسويق والترويج لهذه الانتهاكات لتحصد معها كل من نجا من المدافع والرصاص. وإستلف البعض في المنصات الاعلامية سيف محاكم العدالة الناجزة ليقطعوا رأس ويد كل مخالف للرأي أو قائل للحقيقة.

لم يكن باستطاعة مواد قانون الوجوة الغربية الوقوف على قدميه، ليطال المجرم والبريء على حد سواء، لولا قوة الدفع الإعلامي التي وقفت وراءه وهي مجردة من قيم المهنة وشروطها الأخلاقية. وكذلك ما كان بالإمكان تسويق خطاب دولة 56 لولا الروافع الإعلامية التي أنتجت المصطلح لاستخدامات تغسل بها ثوب الانتهاكات وتبرر به الجريمة، فصارت أكثر أثراً من المدافع والمُسيرات.

في حرب أبريل ما كان لأرقام الضحايا من المدنيين والاحصاءآت المروعة، الواردة في تقارير المنظمات الوطنية والعالمية، لتصل للحد الذي توصف به الحالة السودانية بأنها الأكثر ترويعاً في العالم لولا جراحات التجميل التي استخدمتها الأقلام لتوصيف ماحدث بأنه مجرد أعراض جانبية لا بد منها في الحرب.

وبسبب حرب الإعلام صار هنالك إلتباس كبير في تعريف حالة المجاعة التي تمت شيطنتها لتصبح مشروع سياسي يتم التعامل معه كسلاح يستخدمه العدو، بينما العالم والإقليم من حولنا يستجدي فتح المعابر لتمرير المساعدات الانسانية لإدراك الجوعى والمرضى في معسكرات النزوح والهاربين من جحيم الحرب.

ونحن هنا لا نستطيع أن نُجرد قوات الشعب المسلحة والقوات المساندة لها ولا قوات الدعم السريع من إرادة التفاوض والحل السياسي للحرب في السودان، بدليل ما حدث بشكل جماعي في منبر جدة التفاوضي وماحدث في العاصمة البحرينية المنامة. أو بشكل منفرد في مبادرات القاهرة وجنيف وكل دول الجوار إلا أن شيطان إعلام الحرب كان موجوداً في العموم والتفاصيل ليحرق كل مراكب العودة لحل ينجي الشعب السوداني من نيران الحرب.

من يعلم بالتطورات التي حدثت في وسائل الصحافة والإعلام، والأدوات التقنية التي توفرت لايجاد فضاء إعلامي متحرر من أغلال الادوات القمعيه للصحافة والإعلام بالضرورة لن يكون سبيله في إدارة الشأن الاعلامي والصحفي هو قرارات التقييد والنزع والإيقاف وتجريم زملاء المهنة والتضييق على كل من يقترب من خطوط الحقيقة. وذلك لأن التاريخ محتشد بامثلة تؤكد قدرة الصحفيين والإعلاميين على تطوير أدواتهم النضالية.

ولم تغب على فطنة القاريء إحتشاد الفضاء الصحفي والإعلامي بغث المحتوى وركيكه، والانصراف لمناقشة قضايا هي الأدني في سلم الأولويات السودانية التي تبدأ من الموت الجماعي والمجاني للنساء والأطفال والعجزة وحقوق النازحين واللاجئين والمخططفين والمحتجزين قسرياً والنساء اللائي يتعرضن للاغتصاب في مناطق الحرب والأسرى وضحايا المحاكم الميدانية من المدنيينن بالإضافة لعدم توفر الحد الأدنى من الخدمات. كل هذا يجري بتخطيط محكم لإعلام الحرب حتى صار الحديث عن التفاوض واحدة من الذلات الوطنية الموجبة للتجريد من الموقف الوطني.

يوما ما سيتوقف الرصاص وتهدأ أنفاس المدافع، وسيعود المواطنون لأرض زرعتها حرب الإعلام ببذور الكراهية والعنصرية وألغامها، وستحتاج معالجات آثارها لسنين طوال من عمر الشعب السوداني.

كل العشم في أدوار إستراتيجية للإعلام السوداني تُحصّنه من آثار الحرب الإعلامية، وتشكل ضمادة لكل الحروق التي نتجت عن حرب الإعلام وتسهم في إعادة إعمار المعاني قبل المباني.

معرض الصور