01/07/2025

اليوم الأول بعد حرب أبريل في السودان

خالد ماسا
وعلى الرغم من عدم وجود دلائل أو مؤشرات على أرض الواقع حتى الآن تجعلنا نتمكن من وضع تقديرات لهذا اليوم، إلا أنه بالضرورة يوما ما سيأتي محملاً بأثقال الأرض والحرب معاً، وسيكون الوصول إليه مكلفاً. ولن يستطيع هذا البلد المنكوب أن يتوقف عند نقطة الوصول إليه لالتقاط الأنفاس وبداية مشوار إصلاح ما خربته الحرب.

ظاهرياً تستطيع العين المجرّدة الآن أن تبدأ في رصد وإحصاء ما خلّفته الحرب من دمار في البلد وبنيتها التحتية، التي كانت بالأساس ومنذ ان كُتِب لها الاستقلال من المستعمر تنهض بانتفاضة في يوم وتتدحرج لسنين في نفق هزائم كل المشاريع الوطنية فيها بانقلابات كانت أو بالحروب والتي كانت بمثابة التحضير للخراب الآخير بالحرب الشاملة بطول فقر البلاد وعرض المرض السياسي العُضال الذي فيها.

في اليوم الأول بعد الحرب، إن قُدّر لها أن تنتهي حرباً أو سِلماً، ستفتح البلاد عيونها على ما لم تتم رؤيته بالعين المجرّدة في وسط لعلعة الرصاص ودخان المدافع وما تسقطه الطائرات بطيار أو بدونه على مُقدرات البلد ورؤوس المواطنين.

فبعد اليوم التالي لأطول حرب شهدها السودان (21 عاما) في بدايات العام 2005م وُلد جيل هو الآن في العقد الثاني من عمره. وصحيح بأنه لم يعايش الحرب وقتها، ولكن كل ما حدث بعد ذلك ظل يشكل وجدانه ويبني شخصيته بخارطة إجتماعية جديدة قررتها نتيجة الاتفاق الذي كان نتاجاً للحرب، وجدان لا يعترف بمقولة منقو لا عاش من يفرقنا. إذ أن الواقع فرض ترسيماً جديداً ليس لجغرافيا المليون ميل مربع، بل تجاوز ذلك لجغرافيا إجتماعية جديدة لا زال الجنوبيون من مواليد الولايات الشمالية والشماليون من مواليد الولايات الجنوبية يدفعون كُلفتها إذ لم يكن وقتها الأمر في حدود الجنسية وبطاقات الهوية، بل كان وجداناً مشتركاً في الفن والثقافة المتبادلة والعادات والتقاليد والتصاهر والتزاوج.

التغييرات في الخارطة الاجتماعية السودانية ترسمها الأرقام التي تظهر في تقرير اتجاهات منتصف العام التي تعمل عليها UNHCR لإحصاء حالات النزوح الداخلي، والتي تقول بأن 1.6 مليون سوداني كانوا مضطرين للنزوح قسراً هرباً من الحرب وطلبا للنجاة فقط من شهر يناير وحتى يونيو من العام 2024م. ليصبح الرقم الكلي للنازحين السودانيين 10.5 مليون سوداني وهو النصيب الاعلى في العالم بحسب التقرير. هذا ولا زالت الحرب تطال المواطنين بأصعب حالة ضعف للأمن الغذائي.

يحدث هذا في بلد يعاني اقتصاده في الأصل من هشاشة لا تجعله مؤهلاً لاستيعاب مثل هذه التحولات الاجتماعية الكبيرة، لتبرز مشكلات الصراع على الموارد الشحيحة في المناطق التي تم النزوح إليها بالإضافة للمشكلات الناتجه عن عدم إتخاذ التدابير اللازمة لتوفير الخدمات الضرورية من كهرباء ومياه ومواعين للسكن والعلاج والتعليم، عطفاً على الهشاشة النفسية لدى الاطفال والنساء النازحين بسبب أحوال وأهوال الحرب التي عايشوها وعدم توفر التدخلات الاجتماعية والعلاجية بشكل سريع.

تتأثر الخارطة الاجتماعية بالتوزيع الغير متوازن للسكان جراء موجات النزوح العالية لتغييرات ذات علاقة بالبناء الاقتصادي الموجود. فالحرب أول ما تهدم وتصيب هو البناء الاقتصادي، بتوقف عجلة الانتاج وفقدان الوظائف ومصادر الدخل وتتوقف عجلة التعليم وترتفع معدلات التسرب من التعليم ليتنامي في جغرافيا النزوح الاقتصاد غير الرسمي، والذي لا تتوفر فيه أدنى مستويات الحماية القانونية للعاملين وتتصاعد فيه أيضاً درجات إستغلال النساء والأطفال ضحايا الحوجة الماسة لأدنى مستويات العيش الكريم.

وبالتأكيد ستتأثر الخارطة الاجتماعية في السودان باختيار ملايين السودانيين اللجوء إلى دول الجوار والعالم البعيد. وهذا يمثل الموجه الأعلى في نزيف العقول والخبرات السودانية في كافة المجالات التي سيحتاجها السودان متى ما جاء اليوم الأول بعد الحرب. وهم الذين إختاروا حياة جديدة في أوطان بديلة، وسينشأ معهم جيل جديد سيشكل الخسارة الأكبر في المورد البشري في السودان.

تُحقن هذه الخارطة الاجتماعية، التي خلقتها ظروف الحرب، بسم خطاب الكراهية المتطرف والخطاب العنصري القائم على تصنيف المجتمعات إلى حواضن صديقة وحواضن عدوة، بحسب الانتماء العرقي أو الجهوي وصعود الهوية القبلية على أكتاف الوطنية. ولن ينتبه المجتمع السوداني لخطورة ظواهر الحرب الصوتية التي تسيدت الفضاء المسموع والمقروء أوان الحرب لترسم خارطة جديدة للمجتمع السوداني بمزاج الحرب وأهواءه، إلا بعد أن تهدأ اصوات الرصاص وينجلي غبار المعركة ليجدوا أنفسهم أمام ماهو أقسي من المدافع والرصاص.

صعود هذا الخطاب وتجاوزه للإعلام المؤسساتي وتخليه عن أدنى الضوابط المهنيه والأخلاقية وتنحي حتى مؤسسات الدولة الاعلامية الرسمية، بل وإستجابتها لسطوة هذا التيار، من شأنه أن يضع عقبات كؤودة أمام ترتيبات ما بعد الحرب ويفرض شروط جديدة لقواعد البناء الاجتماعي تقوم على تعاميم المنتصرين في الحرب.

الحقوق والواجبات التي يجب أن تنعقد على أساس مفهوم "المواطنة" ينخر فيها الخطاب العنصري المتطرف ليهدم بها كل أُسس البناء الوطني الواحد. ويستقطب لها غبائن الحرب ويخاطب بها المصائب التي تجمع المصابين ويجعل منهم جيشه الذي يحارب به العدالة الاجتماعية ودولة المساواة والوعي والقانون.

الإستعداد لليوم الأول بعد الحرب يجب ألا يكون بانتظار توقفها، والذي قد يطول إنتظاره، وإنما بالإدراك الحقيقي لتأثيرات الحرب والحدود الاجتماعية التي رسمتها. العبء الأكبر في هذا الاستعداد يقع على عاتق منظمات المجتمع المدني الوطنية وقدرتها على إستقطاب كل ما هو متاح لأجل تخفيف أضرار وآثار هذه الحرب، وكذلك القوى السياسية الحية التي يجب الا يشغل الخطاب السياسي تفكيرها بالكامل وبصرفها عن الانتباه لمفاجآت اليوم الأول بعد الحرب.

وعلى الرغم من المظاهر القاتمة في حرب السودان إلا أن الخارطة الاجتماعية لم تخلُ من أدوات مقاومة فعالة لكل ما من شأنه أن يكسر التماسك الذي صنعته السنين. وأظهر المجتمع السوداني مناعته الطبيعية ضد كل أمراض الحروب من كراهية وعنصرية وهذا يعول عليه كثيراً في إستغلال ما صنعته الحرب ليكون بداية جديدة لبناء إجتماعي جديد يقوم على الحرية والسلام الاجتماعي والعدالة.

استعداداً لليوم الأول بعد الحرب، لابد من الاهتمام إعلامياً ومجتمعياً بأدوات بناء الوحدة الوطنية التي دمرتها خطابات الحرب. وحشد طاقات المجتمعات المحلية لاعادة إعمار النسيج الاجتماعي، وإستغلال التنوع في الخارطة الاجتماعية السودانية كعنصر قوة يمكن به تجاوز أزمة الحرب.

معرض الصور