
كيف وصل السودان إلى حربه الشاملة. وما المخرج؟
يوسف عبد الله
في الواقع وصل السودان إلى حرب عنيفة وشاملة دخلت سنتها الثالثة منذ أبريل الماضي. ولا تتوفر مؤشرات جدية لتوحي بنهايتها القريبة، إنما هناك احتمال لتقسيم للبلاد وحرب تنافسية أخرى إذا انفصل إقليم دارفور. وفي كل الأحوال، لم تكن الحرب، ولا الانفصال المحتمل، هما الطريق الأنسب إلى (الديمقراطية والاستقرار)، ولا إلى (الكرامة) مثلما سرى الخطاب الدعائي المصاحب للحرب.
بأكثر من حجة فإن الحرب في الحالة السودانية لم تكن هي الخيار الأوحد لحل الأزمة السياسية، وكذلك لم تكن حتمية بحيث إنه لا يمكن تفادي خطتها الكارثية. ينطبق هذا التوصيف على الحرب الحالية مثلما ينطبق على حروب الدولة السودانية الأخرى التي خاضتها رسميا منذ سنة الاستقلال 1956.
منذ بدء سنة 2023، وحتى في الشهور التي سبقتها، لم تكن الخرطوم مدينة جميلة. لقد تعطلت فيها الخدمة المدنية العامة إلى حدود بعيدة، وكذلك، لم تكن آمنة بالمستوى الذي تتطلبه حياة المدن والعواصم.
كان أبطال المدينة هم الأفراد المتفلتين الذين نشطوا في الحد من إبطاء مواكب الثورة السلمية، التي أخذت على عاتقها إسقاط انقلاب الجيش وقوات الدعم السريع، واستعادة الديمقراطية المغدورة المتعثرة بتدبيرات الجنرالين، عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان حميدتي وبمباركة حركات الكفاح المسلح.
في تلك الشهور، على سبيل المثال، تقاعست الشرطة عن فعل أي شيء لصالح حفظ الأمن، وصدمت الناس بتكرار سلوكيات غير مهنية، أبعدتها عن كونها شرطة يمكن التعويل عليها، وكذلك أعاد الانقلاب في 25 أكتوبر 2021 إلى جهاز الأمن سلطاته القديمة الموروثة من نظام الإخوان المسلمين، متمثلة في حق الاعتقال والاستجواب.
وسريعا عمل الجهازان، الشرطة والأمن، بتناغم لقمع المواكب السلمية بتشف وإخلاص ظاهرين. وإزاء ذلك، وعلى سبيل المثال، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية في 20 مارس 2022 عقوبات على شرطة الاحتياطي المركزي بسبب قمعها المفرط للثوار و"انتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان".
ببلوغ شهر أبريل، شهر اندلاع الحرب، كانت حصيلة المواجهات بين الشرطة والثوار السلميين أكثر من (150) قتيلا و(500) من الجرحى، وثقهم رئيس بعثة الأمم المتحدة لدعم الانقال الديمقراطي في السودان، فولكر بريتس، في تقريره الرسمي المقدم إلى جلسة مجلس الأمن.
كانت المدينة بعامة في جو من الابتزاز الأمني والعسكري؛ فإلى جانب الشرطة والجيش وقوات الدعم السريع، كانت هناك الحركات المسلحة التي أظهرت نزعة سلطوية واحتلت جيوبا من العاصمة في أعقاب التوقيع على اتفاقية سلام مع الحكومة (أكتوبر 2020)، وقد هددت هي الأخرى بالرجوع إلى الحرب، "لتبدأ هذه المرة من الخرطوم"، وليست من دارفور وأطراف البلاد كما بدأت في أوائل أمرها.
وفي الواقع، لا يمكن النظر إلى هذه الحرب خارج سياق التضاد الواقع بين من فجر (ثورة ديسمبر) وعناصر الثورة المضادة الذين أطاحت بهم الثورة. وهو التضاد الذي قاد إلى انقلاب 25 أكتوبر 2021، ثم بروز التباين الحاد في مواقف الانقلابيين فيما بينهم.
إن معطيات كثيرة حلت وخلقت واقعا جديدا شابته تصدعات ومصالح متضاربة لفاعلين دوليين كانوا يزكون الصراع. هذا الواقع أضعف المؤسسات الدولية التي تقع عليها مسؤولية الأمن الجماعي، مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث انشلت قدرته على الفعل. هذا العجز الديبلوماسي فتح الباب على مصراعيه لمتنافسين إقليميين للتدخل بالانحياز لأحد الأطراف بغية التصعيد وتحجيم المنافس الآخر سودان.
في منتصف العام 2021 خاطب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان مبديا قلقه من الاحتقان والتوتر داخل المؤسسة العسكرية (الجيش وقوات الدعم السريع). لكن عبد الفتاح البرهان قال إن المؤسسة العسكرية "متماسكة بما يكفي.. وإن العلاقة بين الجيش وقوات الدعم السريع في أفضل حالتها، وأن السياسيين هم من يريد الوقيعة داخل المنظومة الأمنية".
في منتصف شهر أكتوبر 2021 انعقد اعتصام أمام القصر الجمهوري، عرف شعبيا بـ (اعتصام الموز). انعقد بتحالف خفي بين قادة الجيش وقوات الدعم السريع وقوى الثورة المضادة، كان الغرض منه الإطاحة بحكومة عبد الله حمدوك الانتقالية. وترافق مع ذلك إغلاق الطريق المهم بين العاصمة والميناء الرئيسي في بورتسودان.
في 25 أكتوبر 2021 وقع الانقلاب على الوثيقة الدستورية واعتقل أعضاء الحكومة من المدنيين، بمن فيهم رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك. فخرجت التظاهرات الرافضة للانقلاب مطالبة بعودة الحكم المدني. تصدت لها الأجهزة الأمنية بصورة وحشية وقتل العشرات من المتظاهرين.
ووجه الانقلاب برفض داخلي وعزلة دولية وإقليمية، إذ وصفته المنظمات السياسية الدولية والإقليمية بأنه "انقلاب على الحكومة المدنية"، وفي ظل هذه الظروف فشل عبد الفتاح البرهان في الإعلان عن حكومة جديدة وساءت الأوضاع الاقتصادية وزادت معدلات الجريمة واتسعت رقعة السيولة الأمنية. وأصبحت البلاد في فراغ دستوري.
بعد نحو شهر على الانقلاب عاد قادة العملية الانقلابية مرة أخرى للاستعانة برئيس الوزراء المقال، عبد الله حمدوك، لامتصاص غضب الشارع واحتواء الحراك الثوري، وتم التوقيع على اتفاق سياسي في نوفمبر ٢٠٢١ بطله الخفي هو عبد الرحيم دقلو، القائد الثاني لقوات الدعم السريع، لكن الشارع رفض الاتفاق واتسعت رقعة الاحتجاجات وانتظمت التظاهرات في العاصمة مما دفع حمدوك للاستقالة.
ازدادت الضغوط الداخلية والخارجية على قادة الانقلاب مما دفعهم لبدء التفاوض مع قادة تحالف (قوى الحرية والتغيير) وفصائل سياسية أخرى عددها (52) جهة، وفي الخامس من ديسمبر 2022 تم التوقيع على مسودة (الاتفاق السياسي الإطاري) بين العسكريين والقوى المدنية. وقال عبد الفتاح البرهان لوسائل الإعلام، وقتها، إن التوقيع على الاتفاق "يمثل المخرج الوحيد من الأزمة". واعتمدت الأطراف يوم السادس من أبريل 2023 موعدا للتوقيع النهائي.
ماذا يعني الاتفاق السياسي الإطاري؟ هو اتفاق سياسي كان الهدف منه إنهاء الوضع الانقلابي الناتج عن انقلاب 25 أكتوبر واستئناف التحول المدني الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة السودانية. شاركت فيه أكثر من 50 جهة سياسية ونقابية وأخرى عاملة في المجتمع المدني.
في خضم ذلك، انطلقت عملية سياسية برعاية أممية من أجل إنهاء حالة الانقلاب حتى وصلت في 26 مارس 2023 إلى عقد ورشة للإصلاح الأمني والعسكري، للوصول إلى صيغة تنهي حالة تعدد الجيوش وآلية لدمج قوات الدعم السريع وقوات الحركات داخل القوات المسلحة.
من جانبهم استشعر قادة حزب المؤتمر الوطني، حزب عمر البشير، خطورة الاتفاق السياسي الناشئ وبدأوا في التحريض ضده وتعهدوا بوأده ولو بالعنف.. لكن أين تكمن مصادر العنف الملوح به؟
لعقود طويلة من عمر السياسة الرسمية في السودان، تعايشت قيادات الجيش مع الأجهزة والمليشيات العسكرية الموازية، على الأقل طيلة حكومة الإنقاذ بقيادة عمر البشير؛ بل ساهمت حكومة عمر البشير ببراعة في تأسيسها باعتبارها الوسيلة الفعالة لقمع المعارضة السياسية آنذاك. لكن الجديد في هذه المرة هو نشوب قوى لها ميزات الجيش نفسه: القوة العسكرية والمال والطموح السياسي والعلاقات الخارجية.
منذ الثمانيات من القرن الماضي، خاضت الحكومات المتوالية في الخرطوم حروبا في أطراف السودان، مستعينة بقوات غير نظامية ومنحتها صلاحيات واسعة لاستخدام السلاح ضد حركات الكفاح المسلح المناوئة لها، أو ضد المدنيين في القرى المشتبه في أنها تأوي متمردين على الحكومة.
ومع مجئ نظام الجبهة الإسلامية إلى الحكم (1989)، وصلت الاستعانة بالمليشيات غير النظامية إلى مداها الفائق في البشاعة، وأصبحت كلفتها أكثر ثقلا من أي وقت مضى، إذ أصبحت تهدد وحدة السودان كدولة، وكذلك، استقرار الإقليم بأكمله.
وعلى مر السنين، كان لهذه الاستراتيجة الرخيصة مزاياها الواضحة للأنظمة في الخرطوم. ولسنوات طويلة تبنى نظام عمر البشير معتقدا جازما بأن المليشيات أكثر كفاءة وأقل كلفة، وكان نكران جرائمها جزاء من المنطق السياسي المعتمد لديه.
ومع مرور الوقت، أصبحت هذه المليشيات غير النظامية المعدة محليا أكثر وضوحا من القوات النظامية المحتكرة للسلاح في الدولة التي يديرها عمر البشير، ومن بعده عبد الفتاح البرهان. بالنسبة لعمر البشير، ربما كانت قدرة المليشيات على كسب قوتها ومكافأة نفسها عن طريق الغنائم أقل كلفة مقارنة بالاعتماد على الجيش النظامي، ولكن مع الوقت، أثبتت أنها أكثر كلفة بما لا يقاس، نظرا للمطالب المالية والطموحات السياسية المتزايدة. وهاهي تبدو كما لو أنها المتحكم الأوحد في مصير البلاد.