قصص

18/06/2023

الطريق الى مدني

عمار عبد الله التوم
اندلعت الحرب بغتة وتغير كل شيئ.. كل شيئ. ما عادت الحياة كسابقتها ولم نعد نحن كما كنا.

جاء رمضان ومضى مسرعا نحو نهاياته، لم نشعر إلا وقد مضى نصف الشهر، وكأن الأقدار كان تستعجلنا نحو مصيرنا المحتوم مدلهم الملامح.

أحداث رمضان كانت تهرول ونحن معها بذات السرعة. خبر وفاة ابن عمي محمد نزل علينا ثقيلا، مؤلما وقاسيا قبل اسبوع من اندلاع المواجهة. كعادة السودانيين، تصير ملمّاتهم - بعد الصدمة الأولى - سوحا ملتهبة للنقاش في السياسة وأحوال البلاد الموضوعة على صفيح النار.

تبادلنا في سرادق العزاء، العزاء وهزمنا الحزن، ولكن هزمتنا السياسة. فلا يفترق السودانيون على شئ، كما يفترقون في السياسة وتشعباتها. من أقصى اليمين الى الوسط ويسار الوسط. ما تركنا - ذلكم اليوم الطويل - امرا الا وناقشناه، ولكن أكثرنا تشاؤما، لم يكن يظن أن بعد أيام قلائل سيتبدل الحال غير الحال، ويتغير المآل.

كان شبح ٌغامض وكئيب يتسرب ليغمر حياتنا كما يغمر الليل بسواده جنبات الافق بعد الغروب.

ثم صحونا صباح السبت، وقد سرق الغول (فاطنة السمحة) ونثر دمها على النيل وبعثر شعرها في السماء دخانا وحريقا وصوت صراخها استحال رعودا ورصاص.

ضجت الدنيا، وكنا الخبر العاجل. أهذه التي تحترق هي الخرطوم؟ أم هو كابوس لعين احتل منامنا ويقظتنا ويأبى لنا أن نستيقظ منه؟ أصدق ٌهذا الذي نسمع صوت رصاص وقنابل؟ أم هؤلاء هم أطفال الحي كعادتهم يجربون ألعاب ومفرقعات العيد وما بقي على العيد إلا قليل الأيام، فهو طارق قريب على الباب!!

كان التلفاز ينقل لنا المشاهد ونحن في ذهول وفجيعة. نسمع أزيز الطائرة وينفجر الدوي في آذاننا صارخا، ونشاهد ذات الخبر على الجزيرة والحدث وغيرهما (الطيران يقصف مواقع الدعم السريع في بحري) في أسوأ تجسيد لتلفزيون الواقع!!.

يمضي الوقت وتحين ساعة الإفطار بينما ذلك الوجوم وتلك (الغمة) التي نعرفها جيدا منذ فض الاعتصام تتسلل الى قلوبنا وأرواحنا.. لتنبئنا بأننا لسنا بخير! نحن لسنا بخير أبدا!!

في اليوم التالي ينقطع الامداد المائي، ومسلسل البحث اليومي عن مياه صالحة للاستخدام والبحث عن خبز وغيره من ضرورات الحياة يسحب ما يتبقى من صمودنا. ندرك أن الحبل سيلتف رويدا حول أعناقنا، ماهي الا مسألة وقت فقط!

في التلفاز تتركز الصورة على مشاهد وسط الخرطوم، والدخان الكثيف الذي يغمر السماء وصوت الرصاص والقصف اللذان لا ينقطعان ومعها هرطقات المحللين واشفاق المشفقين.

سوداني يقتل سودانيا آخر برصاص دفعنا نحن جميعا ثمنه وما زلنا. هذا الدخان المتعاظم ينطلق من مطارنا، ومقار جيشنا، وطرقاتنا التي كنا نسير عليها من مواردنا وحاضرنا ومستقبل أطفالنا. هذه الذخيرة التي انطلقت عابثة كان أولى بثمنها دواءٌ بمستشفى ولقمة ٌ في جوف جائع وكرسيّ في فصل مدرسي.

في اليوم الخامس تزداد حدة المواجهات في معظم أنحاء العاصمة، ويشتد صوت المدافع والرصاص قريبا قريبا من طرقات الناس وبيوتهم. يزداد عدد الضحايا وتنقطع الخدمات. ينشط المجتمع لمحاولة لملمة جراحه، والاستفادة من مجموعات وسائل الاتصال، لايصال حاجات الناس ونداءاتهم واستغاثاتهم العاجلة الطامعة لكريم استجابة وتفضّل مجيب، بعد أن غابت الدولة تماما وانقطع الرجاء إلا من الله.

من جبرة واركويت ويثرب حيث يقطن إخوتي دعونا لمكالمة جماعية بعيد منتصف الليل. هذا الأمر وصل مبلغا ينذر بخطر يتهدد الحيوات ومآلات أخرى لا قبل لنا بها، وما يصوره الخيال في سوء ظنه نسأل الله أن يبقى حبيس الخيال. ما العمل إذا وهل من ملاذ آمن؟ هل من طريقة للنجاة والموت يرسل رسله في كل مكان، والخطر محدق محدق؟

عقدنا العزم على السفر عند الصباح، ولكن أين نمضى؟ كان هذا سؤال وكانت الإجابة الى أي مكان سوى هذا الجحيم.

حسنا، لنذهب الى شندي فانها قريبة والمسكن موجود، ولكن كيف لقاطني مدينة الخرطوم عبور كل هذه الأرتال العسكرية دون التعرض للخطر؟ شندي اذن محفوف طريقها بالأهوال!

سريعا قررنا ان نسافر الى مدني فالطريق الشرقي آمن حسبما سمعنا.

عند الصباح بحثت عن وقود فلم أجد حتى بسعر السوق السوداء. محطات الوقود مغلقة ولا دليل يدلك. هذا الوقود الذي لدي لن يوصلني بعيدا قلت لأخي.

يا عمار المهم ان نخرج خارج نطاق المواجهات والباقي على الله يرد أخي!!

في البيت أغالب الخوف والقلق والحزن، لأبدو بخير وثابتا أمام أسرتي وأطفالي، وأنا لست كذلك تماما. أنتهرهم في محاولة مني لمداراة ذلك مستعجلا إياهم للخروج دون أن يحملوا الكثير فلا وقت لدينا، والخوف من تجدد الاشتباكات. ونحن على الطريق، حملنا أوراقنا الاكاديمية وحقائب الملابس، بعض المؤن المدخرة لباقي رمضان وحملنا كذلك ألما عاصرا في الصدر. خرجنا من الباب وتركنا بعضنا هناك ونحن لا ندري هل من لقاء ثان بهذا المكان أم لا!

دموع النساء وهن يودعن بعضهن تشي بأن من وراء هذه الدموع هو ذات الخوف الذي تحسه.

لن أنسى أبدا ما حييت هذا الشعور الذي قبض صدري وانا اقود خارجا من شارعنا وفي الأفق دخان أسود وصوت المدافع والرصاص لا ينقطع ناحية جنوب بحري. قلت في نفسي اهذا هو احساس الموت إذ يقترب؟ أم ماذا؟

تبدو بحري كئيبة عابسة مكفهرة السماء وكأنها غاضبة من الذين سمموا سماءها برائحة البارود وأيقظوا نائميها وأفسدوا رمضانها. ما إن اقتربت من شارع الشهيد محمد مطر (الانقاذ سابقا) حتي أبصرت من بعيد سيارة مدججة بالسلاح للدعم السريع مرتكزة في ناصية مدخل الشارع. ما كنت أظن أنهم بهذا القرب! في لحظات فكرت أن أعود أدراجي! ولكن إلى أين؟ استجمعت أفكاري ومضيت. استوقفوني وسألني ذلك المدجج بالسلاح:
ماشي وين؟
ماشي الشرق كده!
وجاي من وين؟
جاي من بيتنا!
بيتكم وين؟
في الشارع الورانا هناك!
اتفضل!!

بعد أقل من 300 متر، ارتكاز آخر.

ولكن الطريقة كانت ألطف، إذ أشار الى :
انتو أسرة؟ امشوا امشوا! ثم مخاطبا الأطفال: وين ماشين يا حلوين؟

أهؤلاء ذاتهم الذين قضوا على الاعتصام؟ ونراهم الآن في مقاطع الفيديو يقتحمون البيوت ويروعون قاطنيها؟ أي حرب مجنونة مصابة بالانفصام هذه التي نحن فيها؟

من ارتكاز لآخر. فضلت أن أقود وسط الأحياء وأن أمضي مخترقا بحري عبر كافوري الى الشرق آملا في طريق يوصلني الى شرق النيل.

المصدر: صفحة قصص السودانيين في الحرب والنزوح واللجوء - فيسبوك

معرض الصور