قصص

05/10/2023

أسمرا

حاتم الكناني

(الطريق إلى أسمرا هو إقامة في الفتنة)، لم أشعر ببلاغة عبارة الكاتب عادل القصاص تلك - وعادل ممن فتنوا بتلك المدينة كما يفتن العشاق بمعشوقاتهم - حتى طفق الباص، منطلقا من مدينة كرن في منتصف الطريق بين تسني وأسمرا، يتلوى في أعماق الجبال، صاعداً مثل طائرة نفاثة بلا محركات أو أجنحة، مبشراً بالعلو والجمال الأخضر الذي يخفف من حدة فوبيا الصعود الأبدي إلى جنة السماء والأرض في آن.

قبل ذلك، ومع حفاوة الاستقبال الرسمي والشعبي للقادمين من الحرب، وبسبب الشعور بأن الإقليمين الحدوديين المتجاورين كسلا وقاش بركة، هما امتداد لبعضهما، من ناحية التضاريس والمناخ والمجتمع واللغات السائدة، لم ألمس أنني استطعت بالفعل الخروج عبر الحدود رغم الختم الذي طبعه ضابط الجوازات في المعبر الأريتري على جواز سفري.

يقرأ سكان تسني ملامح الهارب من الحرب في وجوه السودانيين، فيسألون عن الخرطوم، بأسى وتعاطف صادق. ذلك التعاطف الذي يبديه الجار للجار والصديق القديم لصديقه في النوازل. يسألون والخرطوم بيتهم مثلما أي مدينة اريترية: من أين أتيت في السودان؟ متى خرجت من الخرطوم؟ كيف تركتها؟ ما الذي يحدث؟ وأكثر من شعور يتبدى في الأسئلة: الأسى، الارتباك، التعاطف النبيل، وأكثر من ذلك معدن المحبة النادر. يقول لي أحدهم: ما يحدث في بلدكم صادم بالنسبة لنا. إنها ملاذنا الآمن إذا ما حلت بنا النوازل.

قضينا نهارنا الأول في المعبر الأريتري في انتظار الباصات المتوجهة الى تسني. وقد تكفلت السلطات بإيصال السودانيين مجانا من الحدود حتى المدينة. وصلنا مع الغروب الى مبنى إدارة الإقليم حيث أعد الغداء لركاب الباصات جميعهم. وبات معظم المسافرين في الفنادق الصغيرة الراقية بالقرب من محطة الباصات السفرية. في اليوم التالي فجرا اتجهت الى مكتب التذاكر لأتعلم لأول مرة، وانا القادم من مرتع الفوضى والأنانية الخرطومية، قيمة الانتظام في الصفوف بلا جلبة. اكتشفت ومن معي من السودانيين أنهم خصصوا صفا لنا يسبق صفوف أهل المدينة. فكانت مأثرة من مآثرهم ومكرمة لطيفة على قلوبنا المحزونة.

يومان إلا قليلا قضيتهما سائحا في تسني، مدينة خفيفة الروح، تشبه ملامحها عفوية القرى، سوقها هادئ وحميم، والحركة فيها هادئة بغير رتابة. تختلط فيها الأجناس واللغات وتترادف. والقهوة فيها كأنك تشربها لأول مرة، ومركز للتجارة الحدودية المتبادلة التي ينتفع بها البائع والمشتري على حد سواء. وفي لافتات المحلات تترادف اللغات الثلاث: التقرنجا، الانجليزية، والعربية، وعلى قلة السيارات تمتلئ الشوارع بالدراجات الهوائية والنساء الجميلات.

في الطريق إلى أسمرا، خارجاً من كرن، تلوح لافتة تعلو بوابة سور في شموخ بهي، ومن على البعد ستقرأ على اليافطة: (مقابر السودان). أثناء محاولتي التقاط صورة عينية اخرى قبل أن ينحرف الباص صاعدا احدى العقبات، تذكرت رواية من زاروا من قبل قبر الفنان الخالد محمد أحمد سرور بأريتريا. ثم خمنت أن يكون مدفونا بين تلك الجبال الشاهقة الخضراء، المكان الذي يليق بجسد الفنان.

أسمرا مدينة عميقة، يألف الزائر شوارعها مع أول خطوة. يسكنها التهذيب واللطف وصلابة الحداثة الاستعمارية، والمشاة فيها أنيقون كأنهم ذاهبون إلى حفل دائم. لنسائها بالغات الجمال والرقة والذوق الرفيع حضور كثيف في حياة المدينة، ينسجن شوارعها وأسواقها بالعمل الدؤوب والتهذيب العفوي. وعلى ارتفاع 2325 مترا فوق سطح البحر، يتقلب الطقس بين الإمطار والإشماس الخفيف. وبين مساجد المدينة وكنائسها يغدو شعب كامل ويروح، وتعمر المقاهي والحانات بكل طالب للحياة. طعامها سائغ يذكرك طعم البهار فيه بلسعة الحياة مع كل لقمة. يدب الصحو في المدينة حتى منتصف النهار، ثم تمضي في قيلولتها، لتصحو على فتنتها الممزوجة بالفرح عصراً. ورغم شح الكهرباء والماء وصعوبة الوصول إلى خدمة الإنترنت، تحافظ المدينة على نظافتها وزهوها وإشراق وجوه ساكنيها بالطيبة الصادقة.

امتلأت فنادق المدينة بالهاربين من حرب السودان الأخيرة والأبدية، يلتمسون فيها المعبر الحميم إلى أصقاع الدنيا: الأطفال وأمهاتهم وآباؤهم، طلاب وخريجون، وموظفون وأصحاب أعمال، يمضون غير آبهين بما حدث أو سيحدث، يطلبون الحياة العادية في جولاتهم بين سفارات العالم وخطوط الطيران والمطارات والمعابر البرية، لأن رجلين مهووسين فاضت شهوتهما للسلطة ولم يعد يحتمل أحدهما البقاء في كنف الآخر، وهما ينوءان بحملهما من المخازي التي شكلت جبروت كل منهما.

معرض الصور