قصص

تم النشر بتاريخ: ١٧ أغسطس ٢٠٢٥ 14:27:53
تم التحديث: 2025-08-17 17:03:45

صدور الأعمال الكاملة للأديب والمفكر جمال محمد أحمد

مغيرة حربية
في وقت يعاني فيه السودان تمزقا اجتماعيا مريعا وزعزعة سياسية، ويكابد محوا ثقافيا هائلا، صدر المجلد الأول من الأعمال الكاملة لجمال محمد أحمد، ضمن (مشروع نشر الأعمال الكاملة للأديب والمفكر جمال محمد أحمد (1915- 1986) الذي انطلق في أغسطس عام 2023، ويعكف على تحريره العام، الكاتب بشير أبو سن، ويشمل المشروع نشرَ جميع الأعمال الفكرية الكاملة للأستاذ جمال محمد أحمد، والكتب التي ترجمها، والدراسات والبحوث والأوراق والرسائل التي نشرها الراحل خلال حياته، باللغتين العربية والإنجليزية، مع إصدارِ دراسات معاصرة عن فكر جمال ومكانته الأدبية وإسهاماته في الثقافة العربية والإفريقية. ومن المتوقع أن يكون عدد الإصدارات، حوالي 13 إصدارة، تتوزّع بين مجلّد وكتابٍ مستقل. ويأتي هذا المشروع ضمن مشروع أكبر يهدف إلى تقديم التجارب الرائدة في المكتبة السودانية، وإعادة نشر أبرز العناوين الفكرية والأدبية من السودان.

يتتبع الـمجلَّد الأول قدْرًا عظيمًا من خُـلاصاتِ متابعات جمال محمد أحمد للحركات الفكرية في إفريقيا، وتأمُّلاتِه الوضعَ الأدبيَّ والاجتماعيَّ المعاصر فيها، إذْ ذاع صيتُه بدراسَتِه نصوصًا أدبيَّةً تُعدُّ اليومَ من عيون الأدب الإفريقي، ناقدًا أدبيًّا وباحثًا مفكرًا يتنقَّلُ بقارئه بين تاريخ إفريقيا القديم والمعاصر، ومكانتـها في الحضارة الإنسانية، متوقِّفًا عند لقائـها بأوربا وما تبعه من آثار على المجتمع الإفريقي، وقد عُرفَ جمال أيضا باهتمامه العميق بالصِّلات العربية الإفريقية، ماضيها وحاضرها ومستقبلها.

يحوي المجلَّد أربعةَ كتبٍ تعالج شؤونًا عدة، ولكنَّـها تبدو عند إمعان النظر وكأنها كتابٌ واحد، هي: مطالعاتٌ في الشؤون الإفريقية (1969)، في المسرحية الإفريقية (1973)، وجدان إفريقيا (1974)، عربٌ وأفارقة (1978). تعكس هذه المؤلَّفاتُ الأربعةُ الاجتهادَ الفكريَّ الواسع لجمال، وتعرِضُ إسهاماتٍ أصيلةً في عددٍ من المعارف، جاءت محمولةً بلغةٍ فريدةٍ خاصةٍ مُعتنى بها، وعبر مناهج مُنفتِحةٍ لدراسة مواضيع يلتقي فيها الأدب المقارن وعلم الاجتماع والتاريخ المعاصر والفكر السياسيّ ودراسات الهوية والخواطر الذاتية وغير ذلك.

صدر الكتاب عن دار إفريقيا للنشر (الشارقة). أعدَّ النصوص وحرَّرها وزوَّدها بالحواشي: بشير أبوسن، وهو شاعرٌ وباحث في الثقافة السودانية وتاريخ الأدب السوداني، وراجعه الصديق عمر الصديق (مدير معهد العلامة عبد الله الطيب للغة العربية بجامعة الخرطوم). ويقول الناشر إنه بإعادة نَشْرِ هذه الأعمال في مجلَّدٍ واحدٍ، نسعى إلى إتاحةِ الفرصة لدَارِسِـي ثقافة إفريقيا وتاريخها، أنْ يطَّلِعوا على هذا الجهد الذي قام به أحدُ روَّادِ مدرسةِ نَقْدِ الاستعمار، وكَشْفِهِ لكيْفيَّة تَعاطي المناهج الغربيَّة مع إفريقيا والجنوب عموما. اهتَمَّ جمال كثيرا بالأدبِ الإفريقيِّ من روايةٍ وشعر ومسرح، وكذلك الاتَّجاهات الفكرية التي سادَت في فترة ما بعد الاستعمار.

صدر الكتاب الأول (مطالَعاتٌ في الشؤون الإفريقيّة) أول مرة عام 1969، عن دار الهلال للنشر، القاهرة. ويحوي مجموعة دراسات وبحوث كان جمال قد نشرها قبل ذاك في عدد من المجلات العربية، أبرزها مجلة حوار، التي كان هو مستشارها الثقافي. تركّز المقالات على عدد من الشؤون المتصلة بالتاريخ الثقافي الإفريقي، مع دراسة مطوَّلة عن تيار الزنجيّة، وبحث عن الديمقراطية في إفريقيا، حاضرها ومستقبلها.

بينما صدر الكتاب الثاني (في المسرحية الإفريقية) أول مرة عام 1973، عن دار جامعة الخرطوم للنشر، وفيه يدرس جمال عددا من مسرحيّات إفريقية، لثلاثة كتَّاب، هم سقاي قبرا مدين من إثيوبيا، وجون بيبر كلارك من نجيريا، وقيوم أويونو أمبيا من الكمرون. والكتاب دراسة ثرية، تعكس جوانب عديدة من فكر جمال ونظرياته وتعامله مع الأدب والتاريخ.

ويعدُّ الكتاب الثالث (وُجدان إفريقيا) الصادر أول مرة عام 1974، عن دار جامعة الخرطوم للنشر، من أبرز كتب جمال وأهمها. نواة هذا الكتاب بحثٌ قدّمه جمال في الجامعة الامريكية في بيروت، عام 1967، باللغة الإنجليزية، ثم عاد وطوّره ووسَّعه ونشره في شكل كتاب بعنوان: وجدان إفريقيا. وهو يدرس بصورة أساسية وضع الديانات في إفريقيا وأبرز الأيدلوجيات في الحياة الفكرية الإفريقية، عن طريق دراسة عدد من النصوص القصصية والشعرية، لأهم كتاب القارة المعاصرين، وتشريحها، ولذلك فهو يجمع بين التاريخ والنقد الأدبي وعلم الاجتماع، ويعتبر مرجعا لأبرز أفكار جمال محمد أحمد.

وصدر الكتاب الرابع (عربٌ وأفارقة) أول مرة عام 1978، عن دار جامعة الخرطوم للنشر، وفيه يوثق جمال للأيام التي شهدت انعقاد الاجتماع الأول للآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية، في أديس أبابا، مايو 1963، وقد كان جمال سفير السودان آنذاك إلى إثيوبيا، ومن المُعِدّين للاجتماعات التمهيدية. ولهذا فالكتابُ يعدُّ وثيقة غاية في الأهمية عن تاريخ نشوء واحدة من أهم المنظمات في القرن العشرين، وظروف قيامها. وقد تطرّق جمال لعددٍ من الشؤون، منها تاريخ فكرة الوحدة الإفريقية، والصراع بين الشيوخ والشبابِ من الزعماء الأفارقة، والصدى العالمي للحدث، وأهميته في السياق العربي، وقد عرّب مقاطع من كلمات المتحدثين، مثل نكروما وسنقور.

يقول بشير أبوسن، إن المجلَّد حَوَى عددا من الإضافات التي تسهم في إعادة تقديم جمال محمد أحمد إلى قراء جدد وفي سياقٍ تاريخيٍّ واجتماعي مختلف، وقد جُمعت الكتب الأربعة وهي كتب صغيرة الحجم، في مجلد واحد، ليعين هذا في الربط بين أفكار جمال المبثوثة في كتبه، خاصة وأن هذه الكتب الأربعة تتصل ببعضها اتصالا وثيقًا، لكونها تدرس وتبحث في شؤون إفريقية، ولأنهن يكمل الواحدُ منهن الآخر بطريقة مباشرة وأخرى غير مباشرة.

زُوّد المجلد بصورٍ ووثائق نادرة، وزُوّدت الكتبُ بحواشٍ تحريرية، فيها تعريف بجميع مَن يذكرهم جمال، من رجال ونساء ومؤلَّفات وأحداثٍ تنتمي إلى أنحاء مختلفة من العالم، وتوضيحات لبعض المفردات من معجم جمال، وتعليقاتٍ، وقد تطلب ذلك الاستعانة بقدرٍ كبير من الأرشيف والمصادر العربية وغير العربية. والغرض من هذه الحواشي إعانةُ القارئ وتمكينُه من الوصول إلى إدراكٍ أدقّ لمقاصد جمال، ولما يرد في موضوعاته، خاصة وأن جمال كان يكتب بطريقةٍ اختص بها، ويستعمل معجمًا غير شائع، ويتحدث في مواضيع ليست مما ألفه القارئ غير المختص.

وُلد جمال محمد أحمد في قرية سرَّة شرق، مدينة حلفا، شماليَّ السودان، عام 1915. وهو مفكّر وناقدٌ أدبي، اشتهِرَ بدراساته عن الأدب الإفريقي، والعلاقات العربية - الإفريقية، والحركات الفكرية في عصر النهضة العربي.

تخرج في كلية غردون التذكارية في الخرطوم (1936)، ثم إلى جامعة إكستر في بريطانيا (43-1946)، ومن بعدهما إلى جامعة أكسفورد (52-1954) حيث نال درجة الماجستير في الآداب، وكانت أطروحته عن الفكر السياسي والاجتماعي في مصر بين (1900-1914)، وعَمِلَ في الـمَجَالَيْن الأكاديمي والدبلوماسيّ. وكان باحثًا من طرازٍ رفيعٍ، اتَّخَذَ الأدبَ الإفريقيَّ، شعرًا وروايَةً، مدخَلًا لنقد الخطاب الكولونيالي ولقراءةِ الاتجاهات الفكرية في إفريقيا السوداء لمرحلة ما بعد الاستعمار.

توفي جمال محمد أحمد يومَ الاثنين، الرابع من أكتوبر، عام 1986م.

معرض الصور